هـجرة العقول والسواعد
العقول النابغة والسواعد القوية هـي أشبه ما تكون بالمناجم والمواد الخام المركوزة بالدولة المتخلفة التي تعيش عصر ما بعد الاستعمار، والتي تتطلع إليها كثير من دول العالم لاحتيازها وتحويلها إلى دم جديد يدفق في جسم الحضارة الاستعمارية التي تسيطر عليها عقدة التفوق والتعالي؛ وبذلك يبقى الانهدام كبيرا ودائما بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، ويستمر امتصاص العقول والخبرات كما تستمر عملية التحكم والاحتواء. ذلك أن الدول المتخلفة يراد لها أن تبقى عاجزة عن الاستفادة من هـذه العقول، تماما كعجزها عن الاستفادة من الخامات الموجودة في أرضها أو أشد عجزا، ويأتي التحكم في العالم الإسلامي وامتصاص عقله وخبراته في الطليعة، فالقضية جزء من عملية الصراع الحضاري والخوف التاريخي من يقظة العالم الإسلامي.
والسبب الذي يؤدي إلى الهجرة واضح، فالدول الكبرى الاستعمارية هـي القادرة على الاستفادة من هـذه العقول وإغرائها بالهجرة إليها بتقديم المال من [ ص: 135 ] جانب، وتدعيم أجواء القمع والإرهاب التي لا تسمح بطبيعة الحال باستيطان هـذه العقول من جانب آخر، وإذا تغلبت هـذه العقول على الإغراءات والظروف وحيل بينها وبين الهجرة لسبب أو لآخر فإنها تمارس نوعا آخر من الهجرة وهي هـنا ليست الهجرة إلى خارج الوطن، وإنما هـي الهجرة في الوطن نفسه، ذلك أن أجواء القمع والقلق والإرهاب الفكري تصيب ملكات الإنسان بالعطالة الكاملة، فتجعل من العالم والباحث والمفكر إنسانا عاديا يمارس طعامه وشرابه وشهواته كأي مخلوق آخر، وقد يستنفد طاقته ليحصل على ذلك.
فكيف لنا والحالة هـذه أن نطلب الإبداع والنبوغ والتقدم للمجتمعات المهاجرة؟!
وفي الحقيقة أن معظم الذين عرضوا لقضية هـجرة العقول والخبرات إلى الدول المتقدمة تناولوا بمعالجاتهم الأعراض والمظاهر، ولم يتناولوا الأسباب الحقيقية للظاهرة؛ لأن تناول الأسباب بجرأة وصدق قد يجعل منهم مهاجرين.
والأمر القديم الجديد الذي يلفت النظر أن الأجواء الرعيبة التي دفعت هـذه العقول إلى الهجرة تحاول الامتداد والمطاردة والملاحقة حتى في بلدان المهجر؛ لأن وجود المهاجر مهما كانت الظروف يبقى شاهد إدانة دائم على الأسباب التي اضطرته للخروج؛ فلقد أرسلت قريش في إثر المسلمين المستضعفين إلى الحبشة تغري بهم ملكها ليسلمهم إليها لأنهم آبقون، ونسيت أن الذي دفعهم إلى الهجرة الظلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( إن في الحبشة ملكا لا يظلم الناس عنده ) ..
والمسلم اليوم أمام هـذا المفترق من الطرق وأولى به أن يختار المركب الصعب فيبقى في بلده طالما أمكنه البقاء إذا تبين له أن إمكاناته وطاقاته ستوظف بهجرته إلى أعداء دينه وعقيدته، وإن كان لا مناص من الهجرة لسبب خارج عن إرادته فليبصر أين يضع قدمه؟ وكيف يفيد من ثغره الجديد؟
[المحرم:1404هـ - تشرين الأول (أكتوبر) : 1983م] [ ص: 136 ]
التالي
السابق