نزعة التأله
ولعل المعاني هـنا يستدعي بعضها بعضا.. فعلى الرغم من أن الحس بالحاجة هـو الطريق الوحيدة لتقدير حاجات الناس، واستشعار المسئولية إلا أن لهذا الحس وجها آخر أيضا - على غاية من الدقة والأهمية - إنه إشعار للإنسان ببشريته المحتاجة، ووسيلة لتحقيق العبودية لله وإلغاء نزعة التأله والاستغناء التي يعيشها بعض الناس، بدافع من سلطة أو مال أو جاه أو منصب. فتعود إلى الحياة صورة النمرود الذي يظن بأنه يحيى ويميت، والفرعون الذي يتوهم أنه الرب الأعلى،
وقارون الذي يظن أن المال كل شيء في الحياة.. فيكون البغي والظلم، ويسام الناس الخسف ويرهقون بالذل ويستخفون بالطاعة.. إن الفقر والأيام الشداد قد تكون ضرورة تربوية لحمل الإنسان إلى شكر النعم، وذلك بوضعها حيث أمر المنعم، ويحس معها أنه عبد محتاج لخالقه..
إن رمضان يعيد هـؤلاء الجانحين إلى صوابهم ويشعرهم بأنهم عبيد محتاجون وبشر ضعاف. فتتوقف نزعة التأله التي عانت منها البشرية ولا تزال، ذلك أن معظم الشر في العالم كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وأن هـذا التأله أخذ في التاريخ صورا وأشكالا متعددة: من تأله الإقطاعي، ورجل الدين، والحاكم الديني في العصور الوسطى إلى الطبقة والحزب والزعيم وما سوف تأتي به الأيام وكلما اكتشف الإنسان صورة استبدلها المتألهون بأخرى، ويبقى التأله هـو التأله!!!
ولقد مورس هـذا التأله على العباد حتى أصبح لازما عند الأمم حيث زرعت القابلية له وصعب الانفكاك عنه، فكان شعارهم
( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) (الأعراف: 138) أفلا تستحق هـذه النزعة التي كانت سببا في شقاء البشرية، ديمومة المعالجة وديمومة التحصين ضدها بما شرع الإسلام من عبادات وعلى رأسها عبادة الصوم!!!
[ ص: 166 ]