التـأويل وأنواعـه
لسنا بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط لشتى المعاني منه، فذلك أمر يطول، وتقصر دونه المجلدات فضلا عن هـذا البحث؛ ذلك لأنهم رضوان الله عليهم قد فهموا من تلك الوقائع أن هـذا الدين يسر، وأن الشرع متسع للطريقتين ومقر للمنهجين...
والمجتهدون الحذقة، والفقهاء المهرة هـم الذين يجتهدون في بيان
[ ص: 38 ] ما يحقق كليات الشريعة، ويوصل إلى مقاصدها، فأحيانا يكون ذلك بالأخذ بظاهر اللفظ، وأحيانا يكون بالأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، وهو ما يعرف بالتأويل، ولعل من المفيد أن نلقي الضوء على هـذا الموضوع، مستعرضين بإيجاز أنواع التأويل وضوابطه...
يأتي التأويل من الأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، ويكون عبارة عن:
1- تـأويـل قـريب وهو ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له، مثل: اعتبار التصدق بمال اليتيم، أو التبرع به لغيره، أو إتلافه مساويا لأكله، أو أولى بالتحريم الذي دل عليه قوله تعالى:
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ... ) [النساء: 10].
ومنه: اعتبار التبول في إناء ثم صب البول في الماء الراكد مساويا للتبول المباشر فيه، الذي ورد النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم :
( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه ) >[1] . باعتبار أن كلا المعملين مؤد لتلوث الماء، وإثارة الوسوسة.
2- تأويـل بعيـد وهو ما يحتاج لمعرفته والوصول إليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله، وذلك كاستنباط
ابن عباس رضي الله عنهما ، أن أقل الحمل
[ ص: 39 ] ستة أشهر من قوله تعالى:
( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) [الأحقاف: 15] مع قوله تعالى:
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) [البقرة: 233].
وكاستدلال
الإمام الشافعي على كون الإجماع حجة بقوله تعالى:
( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [النساء: 115].
وكذلك استدلال الأصوليين بقوله تعالى:
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [الحشر: 2].. على حجية القياس، وكونه دليلا شرعيا. فهذه استنتاجات وإن بدت يسيرة، يتعذر الوصول إليها ما لم يكن الإنسان جوال الفكر، ثاقب النظر، كما تحتاج إلى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.
3- تأويل مستبعد وهو ما لا يحتمله اللفظ، وليس لدى المؤول على تأويله أي نوع من أنواع الدلالة، وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله تعالى:
( وعلامات وبالنجم هـم يهتدون ) [النحل: 16] بأن النجم هـو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعلامات هـم الأئمة. وكتفسير بعضهم قوله تعالى:
( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) [يونس: 101 ] بأن الآيات هـم الأئمة، والنذر هـم الأنبياء.
[ ص: 40 ]
وكتفسير آخرين قوله تعالى:
( عم يتساءلون *
عن النبإ العظيم ) [النبأ: 1-2] بالإمام علي رضي الله عنه ، وأنه هـو النبأ العظيم
>[2] .