ضـوابط التـأويل
ويتبين مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالإضافة إلى القدرة على التدبر والتأمل إلى ما يدل عليه ويلجئ إليه، وإلا فإن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب التأويل إلا في الأمور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال للاجتهاد فيها، فإن الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها، وما قد تدل عليه من كيفيات هـو الأسلم دائما، وهو موقف السلف رضوان الله عليهم.
وعند الاضطرار إلى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله، ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة، وتساعد عليها كلياتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على ظاهره أو تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله تعالى:
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [الحشر: 2 ].
[ ص: 41 ]
إن
ابن عباس رضي الله عنهما عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:
· فوجه تعرفه العرب بكلامها.
· ووجه لا يعذر أحد بجهالته.
· ووجه يعلمه العلماء.
· ووجه لا يعلمه إلا الله.
وعلى ذلك، فإن التأويل، وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه، قد ظهرت الصلة الوثقى بينه وبين التفسير؛ فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله تعالى:
( وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [آل عمران: 7].
فقد ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بالتأويل هـنا التفسير والبيان ومنهم:
الطبري الذي نقل ذلك عن
ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف.
كذلك ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما :
( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ) استعمل التأويل بمعنى التفسير والبيان، وإن كان بعض العلماء،
كالراغب الأصفهاني في مفرداته، قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه إلى أن التفسير أكثر ما يستعمل في بيان الألفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان المعاني والجمل.
[ ص: 42 ]
كما أشار كذلك إلى أن التأويل يغلب إطلاقه على استنباط المعاني من نصوص الكتاب والسنة، أما التفسير فيتناول استنباط المعاني منها ومن غيرها.
ولعل هـذه الصلة الوثقى بين الاصطلاحين في استعمال الكتاب والسنة لهما خاصة، تبيح لنا استعارة الضوابط التي وضعها أهل الاختصاص للتفسير كضوابط للتأويل كذلك.
إن مما لا شك فيه أنه قد وردت في كتاب الله أمور قد استأثر الله تعالى بعلمها، كمعرفة حقائق الأسماء والصفات، وتفاصيل الغيب ونحو ذلك... كما أن هـناك أمورا أخرى أطلع عليها نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه بمعرفتها... ولا شك أن مثل هـذه الأمور، ليس لأحد أن يخوض فيها بتفسير أو تأويل.. بل عليه أن يلزم حدود ما ورد فيها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهناك قسم ثالث: وهو عبارة عن العلوم التي علمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أودع في كتابه،وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمها وبيانها. وهذا القسم يشتمل على نوعين:
الأول:
وهو ما لا يجوز الخوض فيه إلا بطريق السمع، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيره.
الثاني:
ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال، وهذا أيضا لأهل الاختصاص فيه موقفان:
(أ) فقسم منه اختلفوا في جواز تأويله، كآيات الأسماء
[ ص: 43 ] والصفات. ومذهب السلف: منع التأويل، وهو الصحيح.
(ب) وقسم اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهو المسمى بـ (الفقه ) .
هذا وقد وضع العلماء للتأويل والتفسير شروطا منها:
أولا: ألا يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب القواعد اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ.
ثانيا : ألا يناقض نصا قرآنيا.
ثالثا: ألا يخالف قاعدة شرعية مجمعا عليها بين العلماء والأئمة.
رابعا : وجوب مراعاة الغرض الذي سيق النص له من خلال سبب النزول أو الورود.
أما أنواع التأويل الباطلة والمردودة، فيمكن إدراجها ضمن الأقسام التالية:
الأول : التأويل والتفسير الصادران عن غير المؤهل لذلك ممن ليس لديه تحصيل علمي كاف في اللغة والنحو، وبقية لوازم التأويل.
الثاني : تأويل المتشابهات بدون سند صحيح.
الثالث : التأويلات التي من شأنه أن تقرر مذاهب فاسدة مخالفة
[ ص: 44 ] لظواهر الكتاب والسنة، أو لما أجمع عليه المسلمون.
الرابع : التأويل مع القطع بأن مراد الشارع ذلك، دون دليل.
الخامس : التأويل القائم على الهوى، كتأويلات الباطنية وأمثالهم.
وهذه التأويلات المردودة كلها تندرج تحت ما سبق أن ذكرناه من التأويل المستبعد.