الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه
حاول بعض الكتاب على الساحة الإسلامية، أن يصوروا جيل الصحابة رضوان الله عليهم بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزا فحسب، بل هـو جيل يستحيل تكراره، وفي هـذا من الإساءة للإسلام ما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد عصر الصحابة
[ ص: 51 ] ضرب من المستحيل، يجب ألا تتسامى نحوه الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل الشريعة السمحاء.
إن الصحابة رضوان الله عليهم أمة صنعها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي أي مكان إذا اتخذا منهجا وسبيلا، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة يتعاملون، سيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الأول إنما هـو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعا لظروف معينة، وأن زماننا هـذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح.
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هـذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام ، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلا، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هـذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام ، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلا، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
1- اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام فقد كان أول اختلاف بينهم، بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ، حول حقيقة وفاته صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 52 ] " فإن سيدنا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصر على أن رسول الله لم يمت، واعتبر القول بوفاته إرجافا من المنافقين توعدهم عليه، حتى جاء
أبو بكر رضي الله عنه وقرأ على الناس قوله تعالى:
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [آل عمران: 144]، وقوله تعالى:
( إنك ميت وإنهم ميتون ) [الزمر: 30]. فسقط السيف من يد
عمر ، وخر إلى الأرض، واستيقن فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر " كأني، والله، لم أكن قرأتها قط "
>[1] .
" ويروي
ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا
عمر رضي الله عنه أنه قال له في خلافته:
يا
ابن عباس هـل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم.
قال: فإنه - والله - إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هـذه الآية:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [البقرة: 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت. "
>[2]
. فكأنه رضي الله عنه قد اجتهد في معنى الآيات الكريمة، وفهم أن المراد منها: الشهادة في الدنيا،
[ ص: 53 ] وذلك يقتضي بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى آخر أيامها.
2- اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام ثم اختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل: ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال
أبو بكر رضي الله عنه : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ) فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته
>[3] .
فهذان أمران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
3- اختلافهم في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي
المهاجرين أم في
الأنصار ؟ أتكون لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكما وإماما للمسلمين أن تنقص عنها وتختلف؟!
يقول
ابن إسحاق : (ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هـذا الحي من
الأنصار إلى
سعد بن عبادة في سقيفة
بني ساعدة واعتزل
علي بن أبي طالب ،
والزبير بن العوام ،
وطلحة بن عبيد الله في بيت
فاطمة ، وانحاز بقية
المهاجرين إلى
أبي بكر ، وانحاز معهم
أسيد بن حضير في
بني عبد الأشهل )
>[4]
وأوشكت فتنة كبرى أن تقع، ولو وقعت لما كان
[ ص: 54 ] ذلك بالأمر المستغرب كثيرا، فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمة كان لها النبي والقائد لا يمكن أن يملأ بسهولة، ولا سيما أن فيهم رجالا، مثل: عمر، كان قد وقر في أذهانهم استحالة موته صلى الله عليه وسلم في تلك الظروف، فكل فرد في الأمة كان يحبه عليه الصلاة والسلام أكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه، وهم الذين كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل أن تسقط على الأرض، فلا تكاد تسقط إلا في يد أحدهم، وما من أمة على الأرض أحبت نبيها وقائدها محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أحدهم لا يستطيع أن يملأ عينيه من النظر إليه، من حبهم له وهيبته التي ملأت قلوبهم وجوانحهم -رغم تواضعه الشديد- وإن وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة والسلام كان حريا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم، بل وقد فعل ولا غرو في ذلك، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم اليد الحانية التي حملت إليهم عز الدنيا وسعادة الآخرة، ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق، وتلوا قول الله تعالى:
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [آل عمران: 144] ثم توجهوا لاحتواء الأمر، وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب الفتنة.
صحيح أن هـناك زعامة واقعية كانت
لأبي بكر ثم
لعمر رضي الله عنهما ، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الأعناق إليه، مثل: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأبو بكر كان وزير الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ورفيق
[ ص: 55 ] هـجرته ووالد زوجته الأثيرة لديه، وهو الذي لم يكن يفارقه في أي أمر مهم. وعمر رضي الله عنه هـو من هـو؟ فقد كان في إسلامه عزة للمسلمين، وفي هـجرته إرغام لأنوف المشركين، وفي رأيه تأييد من رب العالمين... وكثيرا ما ورد ( ... جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه
أبو بكر وعمر ) و (ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ) و (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ) ... وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي زلزلت الأقدام والقلوب، بيد أن الإحساس بالفارغ في مثل هـذه المواقف قد يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي إلى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة عليه، وهنا فإن الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد كمتهم آدابها في سائر الأحوال... حال الاتفاق وحال الاختلاف.. وفي كل شأن من شئون الحياة، هـذه الآداب كانت كفيلة بدرء سائر الأخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة، وحماية وحدة الأمة وتسيير الأمور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرواة: (أتى آت إلى
أبي بكر وعمر فقال: إن هـذا الحي من
الأنصار مع
سعد بن عبادة في سقيفة
بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ) .
جاء هـذا الخبر إلى الشيخين و رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهز ولم يدفن بعد، قال عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هـؤلاء من الأنصار حتى تنظر ما هـم عليه. وليدع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث " قال: ... إن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فانطلقنا نؤمهم، حتى لقينا - منهم - رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالأ "
[ ص: 56 ] " عليه القوم، وقالا: أين تريدون يا معشر
المهاجرين . قلنا: نريد إخواننا هـؤلاء من الأنصار. قالا: فلا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانينا رجل مزمل، فقلت: من هـذا الرجل ؟ فقالوا:
سعد بن عبادة ، فقلت ماله؟ فقالوا: وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم ... ثم ذكر مآثر
الأنصار وفضائلهم، وما يدل على أنهم أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم. "
وهنا لا بد من وقفة، فالأنصار أهل البلد، وهم فيها الغالبية المطلقة - كما يقال اليوم - وهم الذين آووا ونصروا، وتبوءوا الدار والإيمان وفتحوا للإسلام قلوبهم قبل بيوتهم، وليس هـناك مهاجري واحد إلا ولأخ له من الأنصار عليه فضل كبير، ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام لانتهى الأمر بذكره والاحتكام إليه، وارتفع الخلاف، ولكن ليس هـناك شيء من ذلك، فلم يبق إلا التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وأفضلها لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما كان يقول سيدنا عمر.
" ولما سكت -أي خطيب الأنصار - أردت أن أتكلم وقد زورت (هيأت وحسنت) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر؛ فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر - فوالله ما ترك كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل حتى سكت " ،
[ ص: 57 ] ومما " قال رضي الله عنه : (أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل " وأشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج المدينة - وحدها - فالجزيرة العربية اليوم - كلها - تستظل بظل الإسلام، وإذا كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد الإسلامي، ثم خيرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر ) .
" يقول سيدنا
عمر : (ولم أكره شيئا مما قاله غيرها - أي: غير ترشيحه لعمر
وأبي عبيدة - وكان- والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ... ) . "
ثم قام من
الأنصار خطيب آخر يريد أن يرجع الأمر إلى الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه.. فقال: (...منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش) " قال
عمر : (فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف )
>[5] فقلت: (ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار "
>[6]
.
[ ص: 58 ] وقد كاد
سعد بن عبادة مرشح
الأنصار رضي الله عنه أن يقتل في الزحام (فقد تدافع الناس لمبايعة
أبي بكر حتى كادوا يقتلون سعدا دون أن ينتبهوا له )
>[7] .
وهكذا استطاع الصحابة رضوان الله عليهم حسم هـذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواسب الإحن، وتوحدت كلمة المسلمين للمضي برسالة الحق إلى حيث شاء الله لها أن تنتشر.
4- اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة كان هـذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب عليها بما تحلوا به من صدق النية إلى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع
أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادعى النبوة، مثل: مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن أداء الصلاة والزكاة، وامتنعت بعض القبائل عن أداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء الزكاة أنفة واستكبارا أن يدفعوا لأبي بكر رضي الله عنه ، وسول الشيطان لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هـو المخاطب بأخذها، ومجازاتهم عليها بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى:
( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) (التوبة: 103)
[ ص: 59 ] ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هـذا الخطاب لم يكن مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يتناول من يلي الأمر بعده - عليه الصلاة والسلام - لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بصفته حاكما وإماما للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسئوليتها إلى القائمين بأمر المسلين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن الأمة.
كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبايعه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوغا للتفريق بينهما، وحرصا من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر
أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتالهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى حظيرة الإسلام، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
>[8] ، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين
عمر رضي الله عنهما الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي الزكاة.
( يقول أبو هـريرة رضي الله عنه : (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر : فكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله تعالى؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هـو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت أنه الحق ) >[9] .
[ ص: 60 ] وقال
ابن زيد : (افترضت الصلاة والزكاة - جميعا - لم يفرق بينهما وقرأ:
( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [التوبة: 11]. وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال : رحم الله
أبا بكر ما كان أفقهه - يريد بذلك إصراره على مقاتلة من فرق بين الصلاة والزكاة - )
>[10]
. وكان سبب الخلاف بين
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن سيدنا عمر ومن معه تمسكوا بظاهر لفظ الحديث، واعتبروا مجرد دخول الإنسان الإسلام - بإعلان الشهادتين - عاصما لدمه وماله ومحرما لقتاله. أما الصديق رضي الله عنه فقد تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم (إلا بحقها ) واعتبر الزكاة حق المال الذي تفقد بالامتناع عن أدائه عصمة النفس والمال، كما فهم من اقتران الصلاة والزكاة في معظم آي الكتاب، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما مثلان لا فرق بينهما.
وما داموا متفقين على أن الامتناع عن الصلاة دليل ارتداد واتباع لمدعي النبوة، فإن الامتناع عن الزكاة ينبغي أن يعتبر كدليل ارتداد يقاتل مرتكبه، وبذلك استطاع الصديق رضي الله عنه أن يقنع بقية الصحابة بصواب اجتهاده في وجوب قتال مانعي الزكاة
>[11] . واعتبارهم مرتدين ما لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة... وبذلك ارتفع الخلاف
[ ص: 61 ] في هـذه المسألة الشائكة، واتفقت الكلمة على قتال مانعي الزكاة، كما اتفقت على قتال المرتدين ردة كاملة، وحفظ الإسلام من محاولات العبث والاتيان عليه ركنا بعد أن أخفقوا في الإتيان عليه كاملا، ولولا هـذا الموقف من الصديق ثم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت للإسلام قائمة ولا نحصر في
المدينة ومكة وأرز إليهما، وسادة الردة والفتنة سائر أرجاء الجزيرة
>[12] 5- اختلافهم في بعض المسائل الفقهية إذا تركنا الأمور الخطيرة التي احتويت، وبحثنا في غيرها نجد ما لا ينقضي منه العجب في أدب الاختلاف وتوقير العلماء بعضهم بعضا، فمما اختلف فيه الشيخان -
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما - غير ما ذكرنا.. سبي أهل الردة، فقد كان أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقض - في خلافته - حكم أبي بكر في هـذه المسألة، وردهن إلى أهليهن حرائر إلا من ولدت لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة بنت جعفر الحنفية أم محمد بن علي رضي الله عنهما .
كما اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة: فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى وقفها ولم يقسمها.
وكذلك اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية في الأعطيات حين كان يرى عمر المفاضلة وقد فاضل بين المسلمين في أعطياتهم.
[ ص: 62 ]
وعمر لم يستخلف على حين استخلفه أبو بكر، كما كان بينهما اختلاف في كثير من مسائل الفقه
>[13] ، ولكن الخلاف ما زاد كلا منهما في أخيه إلاحبا، "
فأبو بكر حين استخلف
عمر قال له بعض المسلمين: (ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك
عمر علينا وقد ترى من غلظته؟ قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك "
>[14] .
وحين " قال أحدهم لعمر رضي الله عنه : (أنت خير من أبي بكر. أجهش بالبكاء وقال: والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر "
>[15] .
تلك نماذج من الاختلافات بين الشيخين، اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب؛ لأن نياطها شدت بأسباب السماء فما عاد لتراب الأرض عليها من سلطان.