أثر الخلاف السياسي في الاختلافات الاعتقادية والفقهية
من الأمور التي لا بد أن نشير إليها أن ما ذكرناه من اختلافات كان شأن جماهير الأمة وغالبيتها العظمى، حيث لا تتعدى الاختلافات القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يحتكم إلى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسنة فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي كريم؛ لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون - كما قلنا - عدم وصول سنة في الأمر لأحدهم ووصولها للآخر، أو اختلافا في فهم النص أو في لفظه، ولكن
[ ص: 77 ] هناك أمرا آخر قد استجد وهو: الاختلافات السياسية التي أعقبت فتنة مقتل الخليفة الثالث
عثمان رضي الله عنه ، وانتقال الخلافة إلى
الكوفة ثم إلى
الشام ، وما تخلل ذلك من أحداث جسام، فإن تلك الأحداث قد أدخلت إلى دائرة الاختلاف أمورا أخرى كانت خارجها، وساعدت على انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إلى ما لدى أهل الأمصار الأخرى نظرة مختلفة متحفظة كثيرا ما تؤثر فيها ظروف التأييد السياسي أو المعارضة، واتخذ العراق بمصريه العظيمين (الكوفة والبصرة ) بيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعقيدها وتصديرها إلى جهات مختلفة، ففيه نشأ التشيع
>[1] وظهرت
[ ص: 78 ] الجهمية >[2] والمعتزلة >[3] ، وانتشر
الخوارج >[4]
وجملة من أهل الأهواء والبدع... وبدأ وضع الحديث، وتأليف القصص ذات المغزى السياسي، ووضع المنافرات على ألسنة الناس، حتى قال
الإمام مالك [ ص: 79 ] في
الكوفة : (إنها دار الضر )
>[5] وقال
الزهري : (يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود في العراق ذراعا)
>[6] .
وهذه الأمور جعلت الفقهاء العراقيين أنفسهم يتخذون من الاحتياطات ويضعون من الشروط لقبول السنن والأخبار ما لم يكن من سبقهم يلتفت إليه، وذلك حرصا منهم على ألا يدخل إلى فقههم من فكر أهل الأهواء والبدع والفرق المتصارعة ما يفسد عليهم دينهم، فما بالك بغير العراقيين الذين بلغ بهم الخوف من الأخذ عن العراقيين مداه، حتى كان أهل الحجاز يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين لا يقبل إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين
>[7] .
وقيل لأحد علماء الحجاز: حديث سفيان الثوري عن منصور المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة النخعي، عن عبد الله بن مسعود... أي: ما رأيك في إسناد هـذه سلسلته، وهو أصح إسناد لدى العراقيين؟ قال: إن لم يكن له أصل في الحجاز فلا
>[8] .
واتخذ العباس من ربيعة بن أبي عبد الرحمن
>[9] وزيرا ومستشارا وهو
[ ص: 80 ] مدني فاستعفاه، وعاد إلى المدينة بعد فترة قصيرة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قوما حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفا يكيدون هـذا الدين!!... ونقل عنه قوله: كأن النبي الذي أرسل إلينا غير النبي الذي أرسل إليهم
>[10] .
وهذه الأقوال وإن كان المقصود بها أهل الأهواء والبدع في
العراق لا أهل السنة وجماهيرهم فيه، إلا أن لها دلالة واضحة على بعض الأمور ذات الآثار البعيدة المدى في الحركة الفقهية، ومواقف فقهاء البلدين وطرائقهم ومناهجهم في الاستنباط.
فأهل الحجاز يعتقدون أنهم قد ضبطوا السنة، فلم يشذ عنهم منها شيء،
فالمدينة كان فيها عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلفهم عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين ، عاشوا فيها إلى وفاته. وكان
عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ولكنه حين يكتب إلى المدينة فإنه يكتب إليهم يسألهم عما مضى وأن يعلموه بما عندهم من السنن ليرسل بها إلى الآخرين. وكان حامل السنة وفقه الصحابة وآثارهم في المدينة سعيد بن المسيب وأصحابه الذين أخذ عنهم بعد ذلك المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، وكان
[ ص: 81 ] علماء المدينة - من التابعين - يرون أن السنن والآثار التي بين أيديهم كافية لتلبية الحاجة الفقهية، وأنه لا شيء يدعوهم إلى الأخذ بالرأي بكل ضروبه، على حين كان يرى بعضهم خلاف ذلك، ويأخذ بالرأي حتى عرف به وحمله لقبا، مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، شيخ مالك الذي لقب بـ (ربيعة الرأي) ولكن الكثرة الغالبة كانت لعلماء السنن والأثر.
أما العراقيون
كإبراهيم النخعي >[11]
وأصحابه فكانوا يرون أن نصيبهم من السنن ليس بقليل، فقد عاش بينهم من الصحابة عدد وافر جاوز الثلاثمائة، وكان كثير منهم من الفقهاء وفي مقدمتهم
عبد الله بن مسعود الذي كان من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، كما كان بينهم
علي رضي الله عنه مدة خلافته،،
وأبو موسى الأشعرى وعمار وغيرهم.
وكان إبراهيم النخعي ومعه معظم علماء العراق يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على ما فيه مصالح العباد، وأنها بنيت على أصول محكمة، وعلل ضابطة لتلك المصالح والحكماء، تفهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأحكام الفرعية شرعت من أجل تلك العلل، وأن الفقيه هـو ذلك الذي يبحث عن علل الأحكام التي
[ ص: 82 ] شرعت لأجلها، ويتفهم غاياتها، ليجعل الأحكام مرتبطة بعللها وجودا وعدما، كما كان علماء العراق يرون أن النصوص الشرعية متناهية لكن الوقائع لا تتناهى، فالنصوص قد توقفت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم تلاحظ علل الأحكام التي شرعت بالكتاب والسنة فإن من غير الممكن مواجهة الحاجة التشريعية لدى الناس.
عن
الحسن بن عبيد الله النخعي ، قال: قلت
لإبراهيم النخعي : أكل ما أسمعك تفتي به سمعته؟ فقال: لا. قلت: تفتي بما لم تسمع؟ قال: سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت
>[12] .
تلك كانت سمة مدرسة العراق: الرأي إن غاب الأثر.
أما
سعيد بن المسيب وعلماء المدينة منهم فكانوا لا يأبهون بالعلل إلا حين يعييهم الوصول إلى نص أو أثر، وكيف يعييه ذلك وهو يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
أبو بكر ولا
عمر ولا
عثمان ولا
علي قضاء إلا وقد علمته.
>[13]
!! كما أن بيئة
المدينة لم يطرأ عليها ما طرأ على البيئة العراقية من تغيرات، ولم يحدث فيها من الوقائع ما حدث في
العراق ، ولذلك فإن الكثيرين من علماء المدينة كانوا إذا سئل أحدهم عن شيء لديه فيه أثر أجاب، وإلا اعتذر.. سئل
مسروق عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك. فقال: أخاف أن تزل قدمي
>[14] .
[ ص: 83 ]
ومما يوضح تهيب أهل المدينة من القول بالرأي فيما لا أثر فيه ما قاله
ابن وهب : قال
مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء، فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه، أو بقياس أو تقليد من يحسن به الظن، أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق، أو كشف أو منام، أو استحسان أو خرص والله المستعان، وعليه التكلان.
>[15] .
ومع أن الخلاف قد احتدم بين المدرستين وجرى تبادل النقد بين الفريقين، لم يتخل أي منهما عن أدب الاختلاف كما تبين لنا مما تقدم من المناظرات، إضافة إلى مناظرات أخرى كثيرة جرت بين رجال المدرستين لم يخرج أحد منهم فيها عن حدود أدب الاختلاف
>[16] فلا تكفير ولا تفسيق ولا اتهام بابتداع منكر ولا تبرؤ.
عن
ابن أبي شبرمة قال: دخلت أنا
وأبو حنيفة على
جعفر بن محمد بن الحنفية ، فسلمت عليه، وكنت له صديقا، ثم أقبلت على جعفر وقلت له: أمتع الله بك، هـذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل. فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم قال: أهو النعمان؟ فقال أبو حنيفة: نعم أصلحك الله. فقال جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إذ أمره الله بالسجود
[ ص: 84 ] لآدم ، فقال:
( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ... ثم قال
لأبي حنيفة : أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال أبو حنيفة: لا أدري. قال جعفر: هـي (لا إله إلا الله) فلو قال: (لا إله) ثم أمسك كان كافرا، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان. ثم قال له: ويحك أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس، فقال جعفر: إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة. قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء...
>[17] .
إن أسئلة الإمام جعفر لم تكن مما يعجز واحد مثل أبي حنيفة عن الإجابة عنها، ولكنه الأدب مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو الذي جعله يسكت.
نستوحي مما تقدم من المناظرات أن الأدب النبوي الرفيع كان معين المتناظرين، وأن الاختلاف لم يبن بين الإخوة حواجز تحول دون الالتقاء، وما تناقله المؤرخون لتلك الفترة من غلظة إنما كان يجري
[ ص: 85 ] معظمه بين الفرق الكلامية التي امتدت خلافاتها إلى الأمور الاعتقادية، فسوغ بعضها لنفسه أن يرمي الآخرين بالكفر أو الفسق أو البدعة، وحتى بين هـذه الفرق لم تعدم صفحات التاريخ أن تجد من أدب الاختلاف ما يمكن تسجيله..