الفصل الأول
ملامح حركة إحياء التراث المعاصرة
لا بد قبل تناول الموضوع من تحديد معنى التراث لغة واصطلاحا، مع ملاحظة ما
أحاط الاصطلاح من المعاني والظلال الحديثة المتأثرة بالثقافة الغربية ومصطلحاتها الحضارية.
التراث لغة : ما يخلفه الرجل لورثته، وأصله ورث أو وراث، فأبدلت الواو تاء،
فالتراث والإرث والورث مترادفة. هـكذا قال ابن الأعرابي ومن بعده ابن سيده، وقيل : والورث والميراث في المال، والإرث في الحسب
>[1] مما يشير إلى الميراث الثقافي؛ لأن الحسب هـو مفاخر الآباء وشرف الفعال التي يرثها الأبناء ويتغنون بها. وقد اعتبر الزمخشري هـذا الاستعمال الأخير لكلمة " الإرث " من قبيل المجاز
>[2] [ ص: 25 ]
وقد وردت كلمة " التراث " في القرآن الكريم مرة بمعنى الميراث في الآية الكريمة:
( وتأكلون التراث أكلا لما )
( الفجر : 19) والمعنى : تأكلون الميراث أكلا شديدا لا تسألون أمن حلال أم من حرام (تفسير الطبري 30/183) .
كذلك وردت في السنة بمعنى الميراث كما جاء في الدعاء
( ولك رب تراثي ) >[3]
وحديث الثناء على المؤمن العابد قليل الحظ من الدنيا ففي أخره :
( وكان عيشه كفافا فعجلت منيته وقلت بواكبه وقل تراثه ) قال
الإمام أحمد : تراثه : ميراثه
>[4]
وهكذا فإن كلمة ( التراث ) في لغة العرب تعني الميراث، وهو ما يشمل المال
والأحساب، وقد ورد في القرآن للدلالة على الميراث الديني والثقافي كما في قوله تعالى في دعاء
زكريا عليه السلام :
( يرثني ويرث من آل يعقوب ) ( مريم :6)
( فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قدر له عن الأنبياء حتى يتنافسوا فيه... )
>[5] وكذلك في قوله تعالى :
[ ص: 26 ] ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هـو الفضل الكبير ) (فاطر:32) . فالمقصود هـنا وراثة الاعتقاد والإيمان بالكتب المنزلة قبل القرآن
>[6]
وممن أطلق كلمة الميراث على التراث العقيدي والثقافي الصحابي
أبو هـريرة رضي الله عنه حيث خاطب الصحابة رضي الله عنهم بقوله : ( أنتم هـنا وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يوزع في المسجد... ) فلما انطلقوا إلى المسجد اندهشوا إذ لم يجدوا سوى حلق الذكر وتلاوة القرآن.
فأوضح لهم أبو هـريرة رضي الله عنه أن هـذا هـو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم
>[7]
وبذلك يتبين أن التراث في لغة العرب معناه الميراث، وأنه يطلق على وراثة المال والحسب والعقيدة والدين.
فالتراث الإسلامي هـو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وصناعات وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، ومن ثم فلن يقتصر التراث على المنجزات الثقافية والحضارية والمادية بل إنه يشتمل على الوحي الإلهي (القرآن والسنة) الذي ورثناه عن أسلافنا،
[ ص: 27 ] وعندما نتبنى هـذا التعريف الشامل للتراث ؛ فإن، النظرة إليه والتعامل معه لن يكون واحدا، إذا أن الوحي الإلهي لا يقبل الانتفاء والاختيار منه أو محاولة تطويعه للواقع، أو التفكير بتوظيفه لتحقيق مصالح خاصة أو عامة، بل هـو إطار يحكم الحياة؛ ولكنه يدعها تتطور داخله، فاذا انفلتت خارجه فقد وقع انحراف لا بد من تقويمه.
وقد حذر القرآن نفسه من محاولة الانتقاء هـذه :
( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) ( البقرة : 85) .
وأما المنجزات البشرية الحضارية والثقافية فإنها قابلة للانتخاب والتوظيف وفق الرؤية المعاصرة وحسب الحاجة والمصلحة.
[ ص: 28 ]