[2] المشكلة السياسية
كيف نرسخ معاني الوحدة بين أمة الإسلام؟ وما أثر التراث في ذلك؟
لقد اعتبرت الدراسات الاستشراقية، وتابعها كثير من المؤرخين العرب، قيام الدويلات في العصر العباسي الثاني سببا لانتعاش الحركة الفكرية والحضارية في العالم الإسلامي، وقد بولغ في ذلك؛ إذ كيف يكون ضياع وحدة العالم الإسلامي السياسية عاملا في تقدمه الحضاري؛ حتى كأننا نرسب في عقول الأجيال الإسلامية أن التمزق السياسي له مزايا من حيث ندري أو لا ندري.
ألا ينبغي دراسة الأسباب وفق القوانين الاجتماعية وسنن نشأة الدول وارتقائها وضعفها؟ الدورة التاريخية كما يشرحها ابن خلدون .. أو عوامل ازدهار الحضارة وضمورها وفق عوامل التحدي كما يطرحها توينبي .. وإذا كنا لا نقبل هـذين التفسيرين في تعليل تاريخ الحضارة الإسلامية.. فلماذا لا نعود إلى التصور الإسلامي المنبثق عن القرآن والسنة للتعرف على أسباب انهيار الحضارات التاريخية.. وتطبيق ذلك على الدولة العباسية؟
إننا بحاجة إلى نظرية شاملة للتفسير التاريخي.. وقد آن الأوان [ ص: 50 ] لدراسة تاريخنا دراسة علمية بعيدة عن الارتجال.
ما هـي عوامل التوحيد في الدولة العباسية أيام قوتها؟ وكيف نازعتها القوى المحلية وانتهت إلى التجزئة؟
ما هـو الموقف النظري (المنبثق من الدين ) مما أصاب الوحدة من أخطار التجزئة؟ ما هـي الأضرار التي نجمت؟ وما الفوائد التي حصلت، إن كان في التجزئة فوائد؟
إنني أعتقد بأن التنظير في العصر العباسي كان عاجزا عن مواكبة التقدم، وأن تغذية الجمهور بمعاني الوحدة كان ضعيفا.. بمعنى تخلف الفكر السياسي عن مواكبة الأحداث، رغم تميزه عن الفكر السياسي الوضعي باستقائه من الوحي.. لكن المهم أن تسري معاني الوحي في القلوب والعقول؛ فتتشرب الشعوب بالوحدة وتحافظ عليها من منطلق العقيدة، وتقاوم عوامل التجزئة والتشرذم التي تقف وراءها الأنانية الفردية والجماعية بنزعاتها المحلية.
وبالطبع عند الكلام عن تخلف الفكر السياسي وخاصة في التنظيم فينبغي أن لا ننطلق من مفاهيم ونظم القرن العشرين.. وإنما تتم المقارنة مع الكيانات الأخرى المعاصرة للعباسيين، مثل: الدولة البيزنطية والصين ..
وأيضا فإن التجربة الإنسانية لها دور كبير في استيعاب مفاهيم الوحي الإلهي من ناحية، وفي إيجاد الوسائل الكفيلة باستمرار تأثير الوحي على الحياة من ناحية أخرى. [ ص: 51 ]
ومن هـنا فمن الخطأ في نقد الوضع السياسي في العصر العباسي أن يقاس بدول القرن العشرين مثلا. فوسائل الاتصال والانضباط الآن أقوى بكثير منها في العصور الذهبية الإسلامية، والعصور الوسطى الأوروبية، ولا يتنافى هـذا القول مع خيرية القرون الأولى فهي خيرية التقوى، وتمثل روح الإسلام في الواقع بصورة لا يمكن بلوغها في الأعصر اللاحقة من حيث " النوعية " ؛ ولكن يمكن تحقيقها بنطاق كمي أوسع بحكم قوة وسائل الاتصال التي تقدمت كثيرا.. وبحكم نمو التجربة الإنسانية أو الرشد الإنساني المستمر؛ والذي سيلتقي في نهاية المطاف مع الوحي الإلهي في جوانب كثيرة.
وعلى وجه التحديد: هـل كان النظام الإداري (غير المركزي ) سببا في تنمية الحركات الانفصالية؟
هل كانت الحرية الثقافية أو الاقتصادية للشعوب التي تضمها الدولة سببا في ذلك؟
هل أن ضعف العقيدة ومعاني التوحيد سبب في التمزق السياسي؟
هل أدت القيادات الضعيفة في تكوينها الروحي والعقيدي دورا في تمزيق الدولة؟
هل كان للشعوبية وبقية التيارات المعارضة أثر في ذلك؟
ما مدى إخلاص الخلفاء والوزراء والولاة وأصحاب مراكز القوى المتنفذين الآخرين لوحدة العالم الإسلامي؟
ما هـو موقف الفقهاء الذين كانوا ينظرون للدولة الإسلامية؟ [ ص: 52 ]
ما هـي الأفكار التي سادت الحياة السياسية والتي غذتها المدارس الفكرية ومؤسسات التعليم المتنوعة من كتاتيب ومساجد ومدارس على مستويات متباينة؟
ما هـي وسائل الاتصال المتاحة لتثقيف الناس ونشر الوعي ومفاهيم التوحيد والوحدة؟
ما دور تخلف الوعي في تمزيق وحدة العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري؟ وما دور التباين في المستوى الاقتصادي لأقاليم العالم الإسلامي في تفتيت الوحدة السياسية؟
وما دور القوى المحلية؟ وما دور القوى الخارجية (الروم مثلا ) في تغذية الحركات الداخلية المقاومة للوحدة وللإسلام معا؟
وما هـي الصيغة المناسبة لإعادة وحدة العالم الإسلامي الروحية والفكرية والسياسية والاقتصادية من خلال دراسة الوحي ودارسة والواقع التأريخي؟
ماذا يقدم التراث ودراساته لعالم اليوم - وللعالم الإسلامي المعاصر بالذات - في حقل الفكر والتجربة التأريخية؟
لعل من أهم ما يظنه العديد من المؤرخين من إيجابيات ظهور الدويلات هـو نمو الحركة الفكرية؛ بسبب التنافس على العلماء وتقديم الإغراء المادي لهم للالتحاق بهذه الدويلة أو تلك!
ولكن هـل كان التمزق السياسي هـو الوسيلة الوحيدة لإنعاش الفكر؟ [ ص: 53 ] وهل تخلف الفكر عندما كانت الدولة واحدة في العصر الذهبي؟ وهل ظهرت مدارس الفقه المتنوعة إلا في العصر الذهبي؟
وهذا الازدهار ينطبق على مجالات الحركة الفكرية الأخرى.
إن ما حدث من ازدهار فكري في القرن الرابع الهجري هـو ثمرة طبيعية للتطور التاريخي للحركة الفكرية، وكان يمكن أن يكون الازدهار أعظم لو صاحبته الوحدة السياسية، فلا يمكن لأجواء الفتن والحروب الداخلية وما تتطلب من نفقات اقتصادية وبشرية أن تدفع للازدهار الفكري.. إن الإسلام يوحد الطاقات الداخلية ويصرفها في حركة الجهاد..
فهل كان لضعف حركة الجهاد أثر في نمو الحركات الانفصالية؟
ربما لم يكن استنهاض الأمة يتم بالقدر الكافي لمواجهة العالم الخارجي؛ ويرجع ذلك إلى غياب الوعي أو ضعفه أو عجز وسائل الاتصال المتاحة آنذاك عن توجيه الأمة في العالم الإسلامي الفسيح..
إن الوحدة الإسلامية تقوم أساسا على بناء شخصية المواطن المسلم، وتعميق انتمائه للأمة الإسلامية، وتجاوزه للوطنية والإقليمية والقومية وتمايزه عن الأممية والعالمية.
والتعليم هـو الوسيلة لصياغة هـذه الشخصية، وإذا كان التعليم في المراحل الابتدائية والثانوية يغرس الإرث الثقافي للأمة؛ فإن التعليم الجامعي يبلور ذلك ويفلسفه بسبب الارتقاء العقلي للطالب وازدياد قدرته على التجريد. [ ص: 54 ]
إن المطلوب من الجامعات الإسلامية إذن أن تقوي في نفوس طلابها الانتماء لأمة الإسلام، وتكون شخصياتهم وثقافاتهم وفقا للعقيدة والشريعة..
وقد كان التعليم الإسلامي في حلقات المساجد وبيوت العلماء في القرون الخمسة الأولى للهجرة ناجحا في هـذه المهمة؛ فرسخ العقيدة والشريعة ونشر اللغة العربية في ما بين وراء النهر وطنجة... فهل تقوى الجامعات الإسلامية - وإمكاناتها أكبر من إمكانات العلماء في القرون الأولى.. والتحديات أمامها أخطر أيضا - هـل تقوى على صياغة الشخصية وتحقيق الانتماء إلى الأمة الإسلامية؟
التالي
السابق