[3] المشكلـة التشريعيـة
نحن بحاجة إلى تحديد دقيق لمنهج الاستنباط الفقهي المعاصر؛ وهل نسعى إلى البناء على المدارس الفقهية التي تبلورت في القرون الثلاثة الأولى، وتضخم نتاجها في عصور الاجتهاد حتى أقفل باب الاجتهاد... أم نتحرر من تلك المدارس ونرتبط بمصادر التشريع الأولى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ معالجين مشاكلنا على ضوئها، متخطين جهود المدارس الفقهية الأولى بحكم الفاصل الزمني بينها وبين عصرنا؛ حيث كان وقف الاجتهاد سببا لهذا الانقطاع؟!..
إن ثمة أصواتا قوية تنادي بالعودة إلى الكتاب والسنة والأخذ عنهما مع
[ ص: 55 ] الإفادة من مناهج السلف في الاستنباط والفهم، وعدم إهمال التراث الفقهي العظيم؛ بل الإفادة منه بمرونة دون أن يحل محل الكتاب والسنة، ودون أن يقف موازيا لهما في قوة الإلزام، وهذه الدعوة تحتاج إلى أن تقترن بدعوة موازية، وهي: التحذير من الاجتهاد في دين الله دون علم، ودون ضوابط أصولية، ودون استكمال العدة اللازمة للمجتهد القادر على الترجيح، فإن العودة إلى ينابيع الشريعة والاستقاء منها مباشرة دون ضوابط دقيقة وكفاءة عالية يؤدي إلى الفوضى الفكرية والدينية والفقهية؛ ويملأ مجتمعنا بالمفتين والمجتهدين المتعارضين في أقوالهم واجتهاداتهم؛ وقد بدت طلائع هـذه الفوضى في بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، حيث فقد الشباب الثقة بعلماء بلدهم؛ فمضوا إلى القرآن والسنة يسعون إلى فهمهما، والاستنباط منهما مباشرة دون معرفة بأصول الفقه ومصطلح الحديث، ودون غوص في علوم اللغة العربية ومعرفة أسرارها البلاغية، ومنظومتها النحوية.
ونظرا لبعدنا عن السليقة وتطور لغتنا وأساليب كتابتنا الحديثة، ولصعوبة بناء الثقافة اللغوية والشرعية التي تمكن من فهم القرآن الكريم والسنة النبوية دون الاسترشاد بالمتخصصين من العلماء؛ مع سعة دائرة السنة وصعوبة الإحاطة بها، ووقوع الضعيف في كثير من دواوينها، ووجود الناسخ والمنسوخ فيها، وبعض الأحاديث المطلقة تقيدها أحاديث أخرى، وبعضها ظاهرها العموم لكن أحاديث أخرى، تخصصها، ولذلك فإن ثمة صعوبات بالغة تواجه محاولات الأخذ المباشر من الكتاب والسنة دون ترشيد من العلماء بل ودون إفادة أحيانا
[ ص: 56 ] من التراث الفقهي الذي يوضح فهوم العلماء والمجتهدين الأفذاذ لهذه الآيات والأحاديث في عصور الاجتهاد
>[1] .
إن بعضنا صار يتوهم في تصوره للإسلام بسبب انكبابه سنوات طويلة على أحاديث جزئية معينة من جزئيات العقيدة أو الشريعة فيقصر الإسلام عليها، فالذي يبحث في أحاديث الوضوء سنين طويلة متى يدخل في الصلاة؟ والذي يمضي حياته في دراسة العقيدة متى يدرس الشريعة؟ والذي يدرس أحكام العبادة طيلة وقته متى يعرف أحكام المعاملة؟
إن الفهم القاصر والتشويش الظاهر أثر من آثار التلقي المباشر من الكتاب والسنة دون ترشيد من العلماء.. وليس معنى ذلك النكوص عن أصل المنهج، وإنما التنبيه على أهمية إعداد العدة والتسلح بالعلوم اللازمة قبل أن يتحول طلبة الجامعات إلى مفتين وفقهاء ومجتهدين؛ ففي ذلك جرأة عظيمة على الله ودينه.
وكان معظم علماء السلف يتورع عن الفتيا مع امتلاك الأدوات العلمية خوفا من الخطأ؛ فكيف بمن لا يملك شيئا من تلك الأدوات بل لا يملك أحيانا سوى صحيح البخاري أو الكتب الستة؟ ويرى نفسه أهلا للاجتهاد والترجيح بين الآراء وإصدار الفتاوى!!
إن الدراسة المتأنية لواقعنا الثقافي تؤكد على حالات التمزق والتمرد
[ ص: 57 ] على واقع الثقافة وخاصة في الجوانب الإسلامية، ولن تستقر النفوس وترسو سفينة الأجيال إلا إذا ظهر علماء يتسمون بسعة الدائرة العلمية، وعمق الوعي الحضاري والورع والإخلاص لله تعالى ليحتضنوا الأجيال الصاعدة، ويوثقوا صلتهم بها، ويأخذوا بأيديهم إلى منارات الإسلام ومعالم الحق والإيمان.
وهنا يقدم التراث صورا دقيقة لوسائل إعداد العلماء، ولمناهج العلوم الإسلامية، ولأهداف التعليم وأساليبه بشكل نظريات شمولية في المؤلفات المتخصصة، أو مؤسسات تطبيقية تمثلت في المدارس والجامعات الإسلامية، وقبل ذلك في حلقات العلماء في المساجد، ثم بشكل نماذج من العلماء من عصور مختلفة قاموا بمسئوليتهم في طرح الحلول الشرعية " الأحكام الفقهية " لمشاكل مجتمعاتهم في عصور التاريخ الإسلامي المتعاقبة.
[ ص: 58 ]