[ 1 ] الإعداد العلمي والعقلي
يمثل العلم أبرز سمات هـذا العصر الذي نعيش فيه، حيث إن العقل المدرب والموجه هـو الذي يملك القدرة على بناء الحضارة، وإقامة المصانع، وزيادة الإنتاج بل والتصدي لمشكلات الحياة ومعوقاتها، ولهذا كان من المهام الأساسية للتربية: العمل على إيجاد العقلية العلمية
[ ص: 109 ] التي جاءت أولى آيات الوحي موجهة إلى وسيلتها، وهي: العلم المرتبط بمصدر المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) [العلق:1-5 ] لذلك اهتم المسلمون بالعلم باعتباره عبادة من العبادات التي يتقرب بها المرء إلى الله، وبحثوا عنه في كل مكان، ولم يكن اهتمامهم بعلوم الدين فحسب، بل بكل علم عرفه الإنسان، ولم يحدد الدين رأيه فيه أو موقفه منه.
إن واجب التربية أن تعمل على امتلاك الشباب لناصية العلم حتى يعيش عصره، ويبني مستقبله في عالم يؤكد كل يوم على مكانة العقل ووظيفته في بناء لحضارة وإسعاد البشرية.
وليس العلم الذي بنى به المسلمون حضارتهم هـو العلم المعتمد على الحافظة والرواية كما يرى بعضهم، ولكنه العلم المحفوظ في الكتب، المسطر في كتاب الكون الذي حث القرآن على النظر في آفاقه، والتفكر والتدبر في خلقه ودلالاته.
إن المسلمين في جذورهم الثقافية قد وحدوا نظرتهم للعلوم، ووضعوا لأنفسهم مناهج كاملة للمعرفة والبحث، وإمعان النظر والتثبت، واستعمال السمع والبصر والعقل، وما هـو من العلم الطبيعي التجريبي، وما هـو من الإلهام من وراء الواقع المادي، وإذا كان العلم يعتمد على المشاهدة وما تدركه الحواس من ناحية، والتفكير والتأمل من ناحية ثانية فإن القرآن قد أصل المنهج لذلك:
( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) [الإسراء:36 ] وفتح أبواب البحث العلمي لتقدم البشرية
[ ص: 110 ] ورخائها بعد أن حرر العقول من الأوثان والخرافات، وآيات القرآن كما نعلم تدعو إلى إمعان الفكر والتدبر والنظر في ملكوت الله، وإحسان الاستفادة من السمع والبصر والعقل في التفكير والمشاهدة والتدبر. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تضع العقل في مكانه من الإجلال والتعظيم، الأمر الذي دفع المسلمين إلى الاجتهاد والقياس، ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المشهور حينما بعث
معاذ بن جبل وسأله عن الأمر لا يجده في كتاب الله ولا في سنة رسوله، فأجاب: " أجتهد رأيي ولا آلو " في هـذا الحديث ارتفاع بشأن العقل والقياس فيما لم يرد فيه نص، وهو المبدأ الذي أصله الرسول صلى الله عليه وسلم وأكده الصحابة " وأوصى به سيدنا
عمر في رسالته المعروفة في القضاء
لأبي موسى الأشعري " ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم.. الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها، واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذ حقه، وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ للعذر "
>[1] .
إن التقدم العلمي والمادي والحضاري قد تحقق للمسلمين في الماضي نتيجة المكانة التي أعطاها الإسلام للعلم، والبحث فيه وتوظيفه في الحياة، وتسخيره في سبر أغوار هـذا الكون، وما سخر الله لعباده.
[ ص: 111 ] أ- الجوانب التي تهتم بها التربية العقلية
لا بد أن يشمل الإعداد قدرات الشباب العقلية كلها، وبخاصة ما يتصل بالقوى العقلية من إدراك، وذاكرة، وخيال، وحفظ، واستنتاج، وتخيل، وغيرها من القوى العقلية التي تحتاج إلى صقل وتدريب، بالإضافة إلى الميول العقلية، كالميل إلى البحث والاطلاع، والتنقيب والابتكار، وتقوية مهارات القراءة والكتابة، والتفكير المنطقي المنظم.
إن التربية الموجهة هـي التي تنمي الجوانب العقلية في الإنسان بل والقدرات المساعدة، كالقدرات الرياضية واللغوية، والمعارف العامة، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الجدال والمراء فيما لا طائل فيه، وذم القرآن من يوجهون قواهم العقلية، وقدراتهم في الاتجاهات غير المرغوب فيها.
إن من أهم المشكلات التي تواجهها المجتمعات العربية تتمثل في قصور المناهج التربوية في إعداد الناس عامة، والشباب خاصة؛ إعدادا عقليا يساعد على تفتح أذهانهم، وتنمية قدراتهم العقلية، وصقل مواهبهم، ورعاية ميولهم العلمية والعقلية؛ ليكونوا في مستوى التحدي العلمي والحضاري في عصرهم، ولتكون لهم القدرة على المشاركة والإضافة في توجيه ثمار العلم لخير البشرية.
ولأن العقل السليم في الجسم السليم، فإن الحركة والعمل ثمرتا العقل والفكر، ولذلك فارتباط التربية الجسمية بالإعداد العقلي والفكري دافع للتفكير والعمل معا.
[ ص: 112 ] إن المجتمعات المسلمة تقدر - بطبيعة دينها - العلم والعلماء، وبالتالي فإنها تعمل على تشجيع كل أمر يعمق هـذه النظرة بتهيئة فرص البحث العلمي، والتعليم المنظم، والتطبيقات الميدانية والمعملية، وحرية البحث المرتبطة بمفهوم الحرية في الإسلام، ومراعات الفروق الفردية في الميول، والاستعدادات، والقدرات العقلية، وقدرات التحمل، والصبر، والمعاناة، لأن ذلك كله هـو السبيل إلى مساعدة الشباب على تنمية قدراتهم، وتوجيهها لتحقيق أهداف مجتمعاتهم، ومعرفة كل لقدراته العقلية التي تحدد طريقة في الدراسة الأكاديمية، أو المهنية، أو غير ذلك.
وقد عاب القرآن على الذين يعطلون عقولهم، ويعتمدون على غيرهم ويقلدونهم، ودعا إلى التحرر في الفكر حتى يكون المسلم قادرا على التخلص من ربقة التقليد، وقيود التقاليد والمعارف والخبرات التي لا يؤيدها علم ولا عقل، ودعا إلى تنمية الاتجاه العلمي السليم في احترام آراء الآخرين والأمانة في إصدار الأحكام، بعد جمع الأدلة، والبحث والتقصي:
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [الإسراء:36 ]
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) [الحجرات:6 ].
ولا يتحقق ذلك كله إلا بتوجيه الإعداد العقلي للشباب إلى الربط بين العلم النظري، والاتجاهات السليمة في التطبيق، وإصدار الأحكام، والوصول إلى الحقائق.
والإعداد العقلي في الإسلام مختلف عن مفهوم الإعداد في الفكر غير الإسلامي ,
[ ص: 113 ] لأن الإسلام يعتبر العقل وسيلة من وسائل المعرفة وليس الوسيلة الوحيدة؛ لعجز العقل وحده عن تفسير كل شيء، ولذلك اهتم المسلمون بالدليل العقلي والدليل النقلي؛ لأن للعقل حدا لا يدرك ما بعده، وليس العلم كله مما يدرك بالعقل، لأن المرء حتى ولو لم يكن مسلما يؤمن بكثير من الأشياء الخارجة عن إدراك العقل والحواس، وإذا كان الإنسان مطالبا بمعرفة الله والتفكير في ملكوته عن طريق العقل، فإن الدين هـو الذي يوجه هـذا العقل، ويحدد مساره الصحيح، وعلم الدين علم غيبي يصل عن طريق الوحي من الله وليس غير ذلك. ولذلك فإن تكامل المنهج في الإعداد العقلي للشباب إنما يبنى على وسيلتي الوصول إلى الحق، هـما: العقل، والوحي. الأول فيما يتعلق بالمظاهر الكونية، والأمور الحسية، وما هـو خاضع للتجربة المادية، والثاني لمعرفة ما هـو خارج عن نطاق العقل وقدراته ووظائفه، وما اتصل بالغيب فيما جاء عن الله من رسله وكتبه.