الفصل الخامس
حركـة الاسـتعراب
[ ص: 143 ]
ظل الإسلام فيئا تستظل به اللغة العربية حيثما حل وأينما ارتحل في ربوع
السنغال ، البلد المسلم غير المستعرب، فقد واكبت حركة الاستعراب تاريخ انتشار الدين الإسلامي، فكلما تمكن الإسلام ذاعت لغة يعرب، واكتسحت مساحات جديدة، فلم يحل بعد ديارها الأصلية دون تعاظم شأنها في السنغال البعيد، حيث لم تكن رمال الصحراء عائقة لازدهارها، واطراد التبادل الثقافي بين شطآنها عبر القرون والأجيال، وكانت هـذه الحركة تلقى التأييد والدعم من مسلمي ضفاف المحيط الرملي: ملوك كبار من إمبراطوريات القرون الوسطى تبادلوا السفارات مع جانبي الصحراء، مثلما استقدم ملوك من
مملكة مالي فنيين وعلماء للاستفادة من التقنية والفن الإسلاميين.
وتأثر الشعب السنغالي بمختلف عشائره أيما تأثر باللغة العربية، سواء في حياته الروحية، أو في مظاهر حركاته الاجتماعية ونشاطاته الاقتصادية وأنظمته السياسية؛ وكان للاحتكاك بين السنغاليين والتجار والسياح العرب والبربر دور وفضل كبير؛ ومن أجل ذلك تسربت كلمات وعبارات كثيرة من العربية إلى اللغات السنغالية.
وليس ببعيد أن يكون انتشار اللغة العربية في منطقة غربي أفريقيا متزامنا مع ظهور طلائع أصحاب
عبد الله بن ياسن الذين أقاموا في إحدى جزر السنغال في القرن الحادي عشر الميلادي حيث انطلقوا لإخضاع قبائل بربرية بالصحراء الكبرى، والسيطرة على
مملكة غانا الواقعة مباشرة على الواجهة الجنوبية من المحيط الرملي، وذلك بقيادة
أبي بكر بن عمر ، وابن عمه:
يوسف بن تاشفين .
منذ ذلك العهد البعيد ما فتئ التعليم العربي الإسلامي مطردا، ولم
[ ص: 144 ] يتقهقر قيد أنملة يوما من الأيام حتى أصبحت اللغة العربية لغة الثقافة والإدارة والتجارة والمراسلات، ووسيلة للاتصالات الدولية في السنغال، ودامت هـيمنتها واحتواؤها للحياة العامة إلى أن تمت السيطرة للقوى المعادية للإسلام ابتداء من النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
على أن تطور التعليم الإسلامي العربي لم يسلك طريقا ذا اتجاه واحد، وإنما كان أخذا وعطاء، فكان المسلمون يرسلون أولادهم إلى
موريتانيا للدراسة، ولما كثر المتخرجون في مجالس تلك البلاد أسسوا بدورهم المدارس العربية التي أصبحت تستقبل طلبة العلم، ومن مراكز العلم في السنغال مدن: (
فوتا ) وقرية (
بير ) ، فضلا عن جامعة " تمبكتو " في
مالي التي كان "
أحمدو بابا " أحد علمائها، وممن اضطلعوا بمهام التدريس بجامع الكتبية بمدينة
مراكش بالمغرب ، وكان يحضر دروسه جمع غفير من طلبة العلم المغاربة.
ومن العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية في السنغال كونها تقوم بعدة وظائف في آن واحد: فهي صالحة لمجالات الحياة المعاصرة من إدارة وتربية وتعليم وسياسة واقتصاد وفنون شأن اللغات الأوروبية الحديثة، فاللغة العربية -علاوة على وظائفها الدنيوية- لغة دين سماوي، يتمسك بها أكثر من مليار مسلم، يقدسونها لنزول القرآن الكريم بها؛ يتعلم كل مسلم على الأقل بعض العبارات العربية، كالتحية، والأدعية، وصيغة الشهادة، والكلمات التي تصاحب شعائر الصلاة وغيرها، ويحفظ بعض الآيات من الذكر الحكيم، هـذا عدا ضرورة معرفة اللغة العربية لأي دارس جاد للإسلام.
ونجم عن هـذا المركز المرموق للعربية أن الشعوب التي اعتنقت الإسلام لم تكن تنظر إليها كلغة أجنبية، ولا عجب حينئذ أن نرى هـذه
[ ص: 145 ] الشعوب -عبر الأجيال- تساهم في نشرها وتعمل على إغنائها، وتتخذها -خلال فترات من تاريخها- أداة للتعبير عن ثقافتها الوطنية؛ وشغلت العربية هـذه الوظيفة في
السنغال قبل أن تتغلب عليها اللغة الفرنسية إثر سقوط البلاد تحت نير الاستعمار ، وظلت إلى ذلك الحين اللغة الوحيدة التي كان يستطيع الإنسان السنغالي بواسطتها أن يتصل مع الخارج.
وكان المستعربون قد احتلوا في مختلف العصور مناصب رؤساء الدواوين في بلاطات ملوك السنغال الأرواحيين منهم أو المسلمين؛ وكان تحرير المراسلات والأوامر والقرارات باللغة العربية أو باللغات الأهلية المكتوبة بالحروف العربية.
لقد استغرق وجود اللغة العربية حقبة طويلة من الزمن، امتدت من المعصور الوسطى إلى العصر الحديث لدرجة أن أصبحت الثقافة الإسلامية العربية جزءا لا يتجزأ من التكوين العقلي للإنسان السنغالي وثقافته، وسواء تعلق الأمر قبل اتصاله بالغرب أو خلال فترة الاستعمار أو بعدها. وانطلاقا من هـذه الحقيقة التاريخية رأت الجهات السنغالية المسئولة ضرورة دراسة ثقافة وتاريخ البلاد بالاستعانة بالمخطوطات العربية التي دونها العرب والأفريقيون بالعربية أو باللغات المحلية بواسطة الحرف العربي.
لا تزال ملامح اللغة العربية جلية في عدد من مجالات الحياة العامة: فمنذ عهد قريب، كانت الإرشادات تكتب بمختلف أنواعها بالعربية، الصحية والتعليمات العامة في الأماكن العمومية، وكثيرا ما كان تخط تلك التوجيهات بالحرف العربي مع استخدام اللغة المحلية، وبلغ من ذيوع الحرف العربي هـذا إلى حد أن جهات تناصب الإسلام العداء كانت تستخدمه لجاذبيته كوسيلة للآتصال بالجماهير، وذلك بهدف التشويش
[ ص: 146 ] والخداع، لأن العامة تعتبر إسلاميا كل ما يكتب بالحروف العربية؛ واستغلت الجماعة القاديانية هـذا الوضع الممتاز لهذه الحروف ووقعها في نفوس الأفارقة المسلمين، فنشرت كتبها بها، وقد حذت في ذلك حذو البعثات التنصيرية التي ترجمت الأناجيل إلى عدة لغات أفريقية مع استعمال الحرف العربي، هـذا وليس من المبالغة في شيء القول: إن الحرف العربي لم ينهزم أمام الحرف اللاتيني بل قاومه بادئ الأمر، ثم عايشه، وظل يؤدي وظيفته كاملة ملبيا الحاجات الثقافية، والتطلعات الدينية والدنيوية للمسلمين.
ومن ميزة الحرف العربي أنه يتفوق على اللاتيني؛ لكونه لم يفرض بقوة السلاح، شأن هـذا الأخير الذي كانت تحميه الأسلحة الفتاكة، وتشجعه المغريات المادية، أما الأول فكان في غنى عن أي حماية لأنه منذ البداية لم يفرض بأي شكل من الأشكال، ولأنه من مركبات الثقافة السنغالية الأصلية؛ وكان حظ اللغة العربية في السنغال وافرا، حيث وجدت فيها متطوعين جندوا أنفسهم للدفاع عنها، وتوسيع نطاقها، وصيانتها من الابتذال والضياع، فازدهرت آدابها وفنونها، ولم يكتف المستعربون السنغاليون بالتلقي والأخذ، بل شاركوا في العطاء، واقتحموا ميدان التدوين والتصنيف والتأليف نثرا وشعرا .
ففي دنيا النثر، طرقوا مختلف مجالاته، خصوصا في الفقه ، وعلم الكلام ، والنحو ، والصرف ؛ وفي صعيد القريض يشغل الرجز مساحة واسعة، فضلا عن أن مواضيع إنتاجهم الشعري تتمحور حول قضايا محدودة نسبيا، حيث تستوعب المدائح النبوية جل القصائد، يضاف إليها المنظومات المدرسية. والإنتاج الشعري هـذا تابع للشعر الموريتاني قلبا وقالبا؛ يبتدئ بعض الشعراء السنغاليين في مستهل قصائدهم
[ ص: 147 ] بالتشبيب والنسيب ؛ وسيلة للوصول إلى محور القصيدة: " يشيم البروق فيتهيج لها، ويدغدغه بلول ريح الصبا، وتثيره تغاريد الهزار، ويبكي على طلول دعد، وتزعجه بلابل الليل القادمة منها "
>[1] وهذا الكتاب لا يتسع لهذا الأدب الثر.
وهذه ثلاثة أبيات من قصيدة طويلة
للشيخ عبد الله إنياس ، وهو من كبار شعراء السنغال الناطقين بالعربية:
ما شاق قلبي صوت الشادن الغرد ولا ابتسام الثنايا الغر عن برد ولا تثنى ملاح بالحمى برزت
تختال في حلل من عيشها الرغد ولا وصال لدعد بعد ما مطلت
وحبذا الوصل بعد المطل من دعد