المبحث الثاني: الرقابة الشرعية
1 – ليس في الإسلام رجال دين – بالمفهوم الكهنوتي – يملكون هـم وحدهم تفسير النصوص وتوضيح الأحكام، ويصلون كما في بعض الأنظمة الدينية إلى حد التحليل والتحريم، فسلطة التشريع اختص الله سبحانه بها ذاته العليا، فليس لأحد سواه قول في هـذا المجال.
بل لقد ذكر الله تعالى أقواما أعطوا رجال الدين عندهم هـذا الحق، فاعتبر ذلك تأليها لهم:
( ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ) سورة التوبة (31)
حتى الرسل حدد سبحانه مهمتهم في بيان ما أنزل إليهم، ولكنه البيان المعصوم الذي لا يناقش طالما كان في أمور الدين، فإن تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا ناقشه المختصون وأوضحوا له ما خفي عليه، وأشاروا عليه بما يرون. والمجتهدون إذا توافرت فيهم الشروط التي سنشير إليها في الباب الثاني ليس لهم كذلك سوى البيان – بيان ما فهموه من الوحي ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم – ولا يرقون في بيانهم إلى مرتبة الرسل في البيان؛ لأنهم غير معصومين، ولذلك اختلفوا وخطأ بعضهم بعضا، ولكل مجتهد نصيب...
في هـذا الإطار ينبغي أن تفهم مهمة الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، فالمستشار الشرعي أو هـيئة الرقابة الشرعية لهم سلطة التحريم والتحليل، وإنما الاجتهاد والبيان والتوجيه...
ولولا الازدواج المشئوم في الثقافة والتعليم لما كان لدينا فئتان؛ واحدة مصرفية وأخرى شرعية، ولكانت أجهزة الإدارة في البنك كفيلة بمعرفة الحلال والحرام، ولكانت مهمة الرقابة الشرعية على التنفيذ جزءا من عمل المدقق الداخلي والمراقب الخارجي وسلطات الرقابة الحكومية على المصارف.
[ ص: 68 ]
لذلك تفاوتت البنوك الإسلامية في هـذا المجال، فبعضها أقام هـيئة للرقابة الشرعية، وبعضها اكتفى بتسمية المستشار الشرعي، وللتسمية ظلال وانعكاسات...
2 – كما أن بعضها جعل سلطة اختيار هـذه الهيئة للجمعية العمومية؛ مساواة لها بمراقب الحسابات الخارجي حتى تكون رقيبة على مجلس الإدارة، بينما اكتفت بنوك أخرى باختيارها من قبل مجلس الإدارة.
والطريقة الأولى بطبيعة الحال تحقق للهيئة الاستقلال اللازم في مواجهة الإدارة لممارسة علها بحرية.
3 – ممن تشكل هـذه الهيئة؟
جرت معظم البنوك الإسلامية على تشكيلها من علماء الشريعة المتخصصين في فقه المعاملات، واتجه بعض البنوك إلى ضم عناصر اقتصادية ومصرفية وقانونية إلى الهيئة.
والطريقة القانية تحقق التمازج المطلوب بين الثقافتين الشرعية والعصرية، اللتين بتكاملها يمكن الوصول إلى اجتهاد جماعي في أمور المعاملات المعاصرة.
4 – كيف تمارس هـذه الهيئة عملها؟
(أ) الحاصل في غالب الأحوال أنها بمثابة هـيئة للفتوى، تسأل فتجيب، ولذلك تأتي فتاواها في المسائل الفرعية التي سئلت فيها مقيدة بشروطها، بحيث لا تكاد تصلح الفتوى لحالة مشابهة خشية أن يترتب على الفرق بين الحالتين فرق في الحكم.
(ب) ونظرا لاقتصار عمل هـيئات الرقابة على الإجابة عما تسأل عنه، فإن الإجابة تكون عادة مترتبة على السؤال، ومتوقفة على طريقة توجيهه، ومن الممكن أن يوجه السؤال عن مسألة محددة بطريقة ما للحصول على إجابة معينة، بينما لو وجه بطريقة أخرى لكانت الإجابة مختلفة.
وقد حدث بالفعل أن استفتيت هـيئتان شرعيتان في بنكين مختلفين
[ ص: 69 ] عن مسألة واحدة، وكانت الإجابة بالجواز من إحداهما والحرمة من الأخرى.
كان السؤال يتعلق بحالة الودائع المتبادلة بعملات مختلفة التي سيأتي ذكرها في المبحث الأول من الفصل الثالث (ثامنا، 1 جـ)؛ إذ وجه السؤال مرة على أنها قرض حسن مشروط بأخذ وديعة بعملة أخرى، فكانت الفتوى أنها قرض جر نفعا فهو ربا، بينما وجه السؤال إلى الهيئة الأخرى على أنها قرض حسن بضمان وديعة بعملة أخرى؛ فكانت الفتوى الجواز.
(جـ) ولم يحدث حتى الآن أن قامت هـيئة رقابة شرعية في أحد البنوك الإسلامية بوضع دليل عمل جامع يبين للعاملين العمليات التي يجوز لهم القيام بها، ويفصل لهم أحكامها، ويحدد نماذج العقود التي تستعمل؛ كما هـو الشأن في البنوك التقليدية.
5 – ولا يتعدى عمل هـيئات الرقابة الشرعية في معظم البنوك الإسلامية دور الإفتاء النظري إلى القيام بالرقابة الفعلية؛ للاطمئنان على أن العمليات التي قام بها البنك بالفعل تمت وفقا للآراء الصادرة عن هـيئة الرقابة.
ولذلك يلاحظ أن تقارير معظم هـيئات الرقابة دقيقة في التعبير عن أن النماذج والعقود التي عرضت عليها موافقة للشريعة الإسلامية.
فهي بطبيعة عملها الافتائي لا تستطيع الحكم على ما لم يعرض عليها.
ولا ينفي هـذا الوضع الغالب أن قليلا من البنوك الإسلامية تتيح لمستشارها الشرعي مراجعة عملياتها الاستثمارية بالتفصيل من واقع بياناتها المالية الخاصة بالاستثمارات وبالدخل، بحيث يستطيع الحكم على ما إذا كانت كل العمليات قد تمت بصورة سليمة وإعطاء توجيهاته بالنسبة للعمليات التي يرى بها مخالفات، ويدون كل ذلك في تقرير مفصل إلى مجلس الإدارة.
إن هـذا المستوى من الرقابة الشرعية على التنفيذ هـو الذي تفتقده معظم البنوك الإسلامية، والذي يمكن معه – إذا عمم – لهيئات الرقابة أن تضع يدها
[ ص: 70 ] على تفاصيل العمل، وأن تشارك في إيجاد حل للمشاكل بهد أن تتفهمها من واقع الملفات؛ لا في صورة سؤال وجواب.
وللمصرف الإسلامي الدولي في الدانمرك – كما لبنك التضامن الإسلامي في السودان – خبرة رائدة في هـذا المجال....
ففي الأول عين المستشار الشرعي مدققا شرعيا له جميع صلاحيات المدقق الداخلي؛ يقوم بفحص مستندات أصول البنك والتزاماته ودخله ووجوده صرفه وتقديم تقرير بما يراه إلى مجلس الإدارة.
أما في الثاني فقد تعدى الأمر ذلك إلى اتباع سياسة ((الوقاية خير من العلاج)) وساعد على ذلك تفرغ إدارة الفتوى ضمن جهاز البنك؛ حيث تمثل في كل اللجان والأجهزة الإدارية الأخرى المصدقة للعمليات الاستثمارية؛ وبذلك تتمكن من الحكم على شرعية أو عدم شرعية المعاملة في مرحلة التصديق، وتقوم بتصحيحها، وبإبدال الصيغ وكل ما من شأنه أن يحقق شرعية التعامل ومصلحة الأطراف المتعاقدة، كما أن إدارة الفتوى تراقب عن كثب تنفيذ العمليات الاستثمارية مع التنفيذات بإدارة الاستثمار وقسم المخازن والأقسام الأخرى بما يمكنها من الوقوف على بعض نواحي الخلل فتصحح ما كان منها قابلا للتصحيح وتبطل ما سوى ذلك...
6 – بقي أن نشير إلى أن بعض البنوك الإسلامية تعهد إلى بنوك تقليدية بالاستثمار نيابة عنها في الأسواق الدولية، ويقوم البنك غير الإسلامي بمعاملات البنك الإسلامي (التي يجب إجراؤها وفقا للشريعة الإسلامية) من خلال الأنظمة والأجهزة والموظفين أنفسهم الذين يقومون بالأنشطة العامة للبنك الوكيل؛ وهي لا تنفك عن الربا وما في حكمه من المعاملات الأخرى المحرمة.
كما أنها تزاولها أيدي أناس غير مسلمين؛ فتفتقد ذلك الحس الإسلامي العام الذي يشعر به الموظف المسلم، إذ يطمئن أو يرتاب في المعاملة فيسأل
[ ص: 71 ] عنها أو عن التطبيقات إذا فاته أن يستأذن في إجرائها منذ البداية كما هـو الواجب.
وبما أنها تتم بعيدا عن جهات الضبط (المستشار الشرعي أو هـيئة الفتوى أو الرقابة الشرعية) فإنها قد تأتي على غير الوجه المشروع في أصل الفكرة، وفي طريقة التنفيذ، بل حتى لو اطلعت تلك الجهات على المبدأ وأجازته، فإن الوسائل التي يسلكها البنك الوكيل كثيرا ما يتغير الحكم بها من المشروعية إلى المنع بسبب قصد خاص تقترن به عبارة لها دلالة خاصة، أو ترتيب الأزمنة بين أجزاء التصرف، أو بين التصرفات المختلفة، مما له مدخل في ربط الضمان، والعلاقة بين الغرم والغنم.. ووقوع التصرف صحيحا أو باطلا.
ومن هـنا وجب أن يشمل الضبط نشاط تلك البنوك الوكيلة فيما يخص معاملات البنك الإسلامي بصورة لا يكفي بها الإدعاء الصادر منها، ولا بالنماذج التي تعد لهذه المعاملات، ولا بالإشعارات التي لا تحمل أكثر من تصريح يصدر منها، بل لا بد أن تشترك في البيان جهة ثالثة ليس لها أي مصلحة في المعاملة... حتى تكون مستندا تنتفي الشبهة في إعداده... فإذا تم الاطلاع والمعاينة لخلفية تلك المعاملات ومستنداتها الدقيقة يتبين: هـل هـي نشاط تجاري أو مشروع؟ أم هـي قيود وإجراءات ورقية تخفي تمويلا ترتبت عليه فوائد مستورة؟
وقد كان لبيت التمويل الكويتي المبادرة في هـذا المجال؛ حيث قام فريق منتدب منه (فيه عنصر فني مصرفي وآخر شرعي) بالتحري عن الكيفية التي يتم التعامل (لصالح بيت التمويل) بين بنك وكيل وآخرين من عملاء مصدرين أو مستوردين؛ وذلك بغرض وضع اليد على مظاهر ووسائل تلك العمليات التجارية. وقد ظهر جليا صعوبة الوصول إلى اليقين أو غلبة الظن.. وظل الركون (إلى حد كبير) إلى الثقة المتخذة أساسا في هـذا التعامل، والمناشدة بعدم الإخلال بها تحت طائلة قطع التعامل لأدنى إخلال يتم عن تعمد أو إهمال جسيم.
[ ص: 72 ]
وإذا كان ذلك ممكنا مع بنك غربي عريق فأولى أن يكون ممكنا مع غيره من البنوك والشركات والأفراد الذين يتعامل معهم البنك الإسلامي، ويود الاطمئنان على شرعية تصرفاتهم.
7 – إن مفهوم الرقابة الشرعية ينبغي أن يتسع ليشمل:
* الجهود التحضيرية للمصرف متمثلة في الداعين للفكرة والممهدين لها سبل الظهور إلى الواقع العملي من منظرين ومشجعين ومؤسسين؛ فلا يخفى ما لهؤلاء من أثر في اختيار منحنى السير ومراقبته بقدر ما يحملون من غيره، وما يملكون من مقدرة على اكتشاف العوج، وإدراك سبل التقويم مستعينين بالمؤهلين لهذه المهمة.
* النظام الأساسي واللائحة العامة من خلال المواد الناصة على التزام الشريعة حصرا، واستبعاد كل ما يعارضها، واعتباره باطلا إن وقع، والدعوة لمحاسبة من يتعمد ذلك الإخلال أو يهمل تحاشيه مع توفر الدواعي لذلك.
* اختيار العاملين في المصرف، ولا سيما في مراحله الأولى التي تدع بصماتها في مستقبله، وإن كان التغيير ممكنا إذا توفرت له شروط التوبة النصوح من الإقلاع عن الأخطاء، والندم الحائل دون التطلع لتكرارها أو استسهالها، والعزم على عدم العود باستئصال الأسباب التي أورثت الخطأ أو الانحراف، وإعادة الحقوق والتبعات إلى أصحابها.
ولئن كان هـذا هـو السبيل الصحيح لتحول المؤسسات إلى الوجهة الإسلامية، فإنه هـو أيضا واجب كل فرد يقدم على العمل في مؤسسة مصرفية إسلامية بعد ماض له، قضاه في مصارف ربوية، فإن عليه أن يتجرد من جميع المفاهيم والأساليب التي كان يسلكها، ولا يستبقى منها في نفسه إلا الخبرة الفنية (المجردة) مع الحذر الشديد من الاسترسال في شيء من الأهواء المتبعة أو الأساليب المبتدعة.
* البيان للمنهج الواجب سلوكه بشتى الوسائل من مذكرات ولوائح ونماذج واستمارات وعقود وخطوات عملية، على أن يضم إلى ذلك كله التوعية
[ ص: 73 ] المستمرة بهذا المنهج من حيث غاياته ووسائله، بمذكرات شارحة، وندوات مفتوحة، ودورات تدريب عامة وخاصة.
وهذه المهمة من أخص أعمال العناصر المنوطة بها – أصالة – مهمة الضبط الشرعي، وهي كما تعتمد البناء والإنشاء تفتح المجال للصيانة والترميم بإزالة الشبهات، وإيضاح المشكلات، والترحيب بكل استفسار.
* الرقابة والمتابعة لخطوات التنفيذ في ضوء المنهج المرسوم، واستكمال ما يتطلبه المقدم من أدوات، وتقديم البدائل التي يمكن بها مواكبة ما يجد في مجال العمل المصرفي.
على أن يتم تخصيص جهة أو أكثر لمهمة ضبط المسيرة لا يعفي من الرقابة العامة الشاملة لكل فرد؛ سواء أكان عاملا في المصرف، أو متعاملا معه؛ أو غيرهما، من منطلق التزامه بالتوجيهات الداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب الحسبة...
(من بحث مقدم للمؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي – دبي، تشرين الأول – أكتوبر – 1985م).