المقدمة
إن التصور البشري للحضارة يرتبط بعديد من العناصر التي لا بد من تآلفها وتفاعلها لكي ينبثق عنها ذلك الشيء الروحي والمادي وأعني به الحضارة، ومن أهم عناصرها العقيدة والعلم والتشريع والسلوك الراقي والفنون والآداب، وقيم الخير والحق والجمال والحرية وغيرها، ولقد سادت حضارات في التاريخ على اختلاف مراحله، ثم بادت، ولقد كان عطاء هـذه الحضارات متفاوتا. وكانت إحداها تركز على عنصر من العناصر، أو جانب من الجوانب أكثر من غيره، بعضها عني بالجانب المادي أكثر من الجانب الروحي، وبعضها الآخر أعطى النواحي الروحية العناية الأكبر، بصرف النظر عما شاب هـذا الجانب أو ذاك من تصورات خاطئة أو مبتورة أو مشوهة، ولعل تلك السلبيات هـي التي شكلت بذور الفناء والتلاشي في الحضارة.
الحضارة إذن في صميمها ترمز إلى القوة الفعالة في صنع التكامل البشري والرخاء والسعادة والتقدم لبني الإنسان، ومن ثم كانت لهذه الحضارات الغلبة والمنعة، وتحقق لها النفوذ والسيطرة، مما جعلها مثلا يحتذى.
[ ص: 15 ]
ونحن في واقع الأمر - برغم اندثار هـذه الحضارات القديمة - نجد لها صدى في الفكر المعاصر، وفي أصول المدنية الحديثة، سواء خفت هـذا الصدى أو ارتفعت نبرته، فشد اليه الأسماع.
وتقف الحضارة الإسلامية فريدة في طابعها وتأثيرها ومنابعها، ونحن لا نبالغ أو نلقي القول على عواهنه، إذا قررنا أن الحضارة الإسلامية لا تموت، لأن خلودها مرتبط بالروح التي تسري في أنسجتها وخلاياها وشرايينها ألا وهي روح القرآن كلمة الله الخالدة، وإذا كانت الحضارة الإسلامية تخضع في بعض الفترات التاريخية لعوامل الضعف والوهن والكمون، فإن ذلك لا يعني فناءها أو انتهاء دورها الخالد، والحقيقة المؤكدة أنها (فاعلة ) دائما، ومؤثرة في كل زمان ومكان، وحينما ذكر المفكر
عباس محمود العقاد رحمه الله أن في الإسلام قوة غالبة وقوة صامدة، فقد كان يعني بالقوة الغالبة فترات الغلبة والمد والهيمنة للحضارة الإسلامية، وكان يعني بالقوة الصامدة تلك القوة السحرية التي تعمل عملها في زمن الضعف والوهن في الأمة الإسلامية، وضرب مثلا لذلك الصمود استمرار انتشار الإسلام، وقيام أكبر دولتين إسلاميتين في تلك الفترة وهما
أندونيسيا وباكستان >[1] .
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصرا من عناصر هـذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحة، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون
[ ص: 16 ] فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهتماما وممارسة لفن الأدب شعرا ونثرا، نرى ذلك واضحا عند
ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عربا وعجما، قديما وحديثا.
ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيرا بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب أن هـذه النظرات - ولا أقول التعريفات - ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثون، ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز أساسا على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، وسواء أسادت هـذه الموجة أم تلك، فإن حركات التجديد لم تتوقف، ولقد تناولت حركات التجديد الأسلوب، فنجد كاتبا كالجاحظ يتخذ لنفسه منهجا وسمتا معينا في كتاباته المميزة الفريدة، وفي موضوعاته المبتكرة، التي فتحت آفاقا جديدة في تصوير النماذج والنفسيات الإنسانية، وأبرزت بكفاءة عددا من الشخصيات النمطية الباقية أبد الدهر كالبخلاء وغيرهم، كما تناولت حركات التجديد مطالع القصائد، والصور البلاغية التي أصبحت متنوعة بتنوع الشخصيات والبيئات والأمصار، وتناول التجديد أيضا الموضوعات، خاصة بعد الصراعات السياسية والمذهبية والمدارس الفكرية التي امتدت أصولها إلى الفقه
[ ص: 17 ] والأحكام ووجهة النظر السياسية، وبعد التأثيرات المتنوعة لقيم الإسلام ومبادئه، ظهر شعر الزهد والحب العذري، وفي فترات أخرى شعر اللهو والمجون المنحرف، الذي كان استجابة لتغيرات جذرية فاسدة تتعلق بالعواطف والعلاقات الإنسانية، وتناول التجديد أيضا شكل القصيدة بصفة عامة، فظهرت المقطوعات والتواشيح والرباعيات وغيرها مما نوع في القافية، واحتفظ بالوزن، كما دخلت إلى اللغة ألفاظ جديدة، واشتقاقات مبتكرة، رفضها بعضهم وقبلها بعضهم الآخر.
وعلى الرغم من حدوث اضطرابات في القيم والمفاهيم العامة إلا أن النغمة الإسلامية لم تخفت أبدا، كان هـناك دائما أدباء أوفياء يحرسون التوجه الإسلامي عبر الفنون والآداب، لا يقعدهم عن ذلك شطط عابث، أو غواية متحلل فاسد أخضع الكلمة للهوه وشهواته ومجونه، ولم يكن فن المديح كله تأليها وتنزيها لأمراء وحكام وقادة، بل حفل هـذا الفن بالكثير من التغني بقيم الحضارة الإسلامية ومجدها، وبعظمة الرجال الأبرار الذين استطاعوا أن يملئوا الأرض عدلا ورفاهية وسعادة.
والأدب الإسلامي في تصورنا عنصر من عناصر الحضارة الإسلامية لا شك فيه، ولسان من ألسنة الدعوة الإسلامية التي تحرص أول ما تحرص على القدوة والمثل، وتهتم بالفعل دون أن تهدر قيمة القول، وقد يختلف بعضهم - وهم قلة - معنا في هـذا التصور، وردنا على ذلك بسيط غاية البساطة، ألا وهو أن المعجزة الكبرى في الإسلام هـي القرآن.. الكلمة المنزلة من عند الله، في إطار من الصدق والجمال
[ ص: 18 ] والإعجاز، كما أن الدعوة إلى الله بنص القرآن الكريم بالحكمة والموعظة الحسنة
قال تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) ( النحل:125) .
وقد تبدو عملية ( التنظير ) للأدب الإسلامي ميسورة وسهلة لأول وهلة، وإنها لكذلك بالفعل إذا انصب التنظير على ( مضمون ) الأدب أو منبعه الفكري، لكن الأمر سوف تكتنفه الصعوبة إذا ما نظرنا إلى الشكل أو الصور الجمالية لأي فن من فنون الأدب.
التنظير للأدب الإسلامي لا يثير كثير جدل في ناحية المضمون، لكن الأشكال الفنية التي لا تكاد تستقر على حال، والتي تختلف فيها الأذواق والأفهام والمناهج الفلسفية هـي المشكلة، بل أكاد أقول هـي العقبة التي تعترض طريق الباحثين عن نظرية سوية مقنعة للأدب الإسلامي.
ويجب ألا يتبادر إلى الأذهان أن ذلك أمر موقع في اليأس أو محبط للعزيمة، فالخلاف حول الصورة الفنية خلاف أبدي حتى بين أبناء المدرسة الأدبية أو الفنية الواحدة، فضلا عن أنه من الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل تحديد أبعاد صورة أدبية واحدة لفن من فنون الأدب، فالقصة يتناولها كل كاتب بأسلوبه وطريقته الخاصة، ولو كان الأسلوب أو الطريقة واحدة لانهدم جانب أساسي من عملية الإبداع، المقلدون وحدهم هـم الذين يدورون في إطار الصورة المحددة، وحتى هـؤلاء قد يتجاوزون - قليلا، أو كثيرا - الحدود المرسومة، أما خصوصية الكاتب المبدع وتميزه فتجعله ينجب عملا فنيا مرتبطا بفكره
[ ص: 19 ] وذوقه وإمكاناته الخاصة، وقد نتصفح عددا من دواوين الشعراء العموديين مثلا، فنجدهم يكتبون وفق قواعد عامة متفق عليها، لكننا نجد
شوقي غير
حافظ غير
البارودي غير
محمد الأسمر غير
الجوهري غير
الزهاوي أو
العقاد وهكذا، والشيء بالنسبة لمن يسمون بأعلام الشعر الحديث والشعر الحر ، وإذا انتقلنا إلى المسرح أو القصة القصيرة تواجهنا الحقيقة نفسها التي لا يمكن الهروب منها. ماذا يعني ذلك كله ؟؟
إنه يعني أن قضية الشكل الفني أو الصورة الفنية مفتوحة..
وحينما أقول مفتوحة !!! لا أعني أنها فوضى.. يتخبط فيها كل من هـب ودب.. فهناك أساسيات تتعلق بالقواعد.. قواعد اللغة.. وباستقامة التعبير.. وبالموسيقى في الشعر، وبالحدث في القصة والمسرحية، وبالجماليات الأدبية الأخرى من رموز وإيحاء وإشعاع، وبأمور تخصصية أخرى في شتى ألوان الأدب، وهذه بدورها ليست قواعد جامدة، ولكنها خاضعة للمواهب الإبداعية القادرة على الإضافة والتعديل والابتكار.
الشكل الفني مشكلة في مجال وضع النظرية، لكنها مشكلة ذات طبيعة خاصة، ويمكن فهمها في إطار التجربة الطويلة، والتنوع الواسع، وفي إطار المنطق والمقبول أو المعقول، وعلى الأدباء الإسلاميين ألا ينزعجوا من مناقشة هـذه المشكلة أو يتهربوا منها، ولنقرر في صلب نظرية الأدب الإسلامي أن الشكل الفني ميراث وتراث، وأنه
[ ص: 20 ] بطبيعته متغير ومتنوع، وأن مجال العمل فيه يلتصق بإبداع المبدعين، أكثر من التصاقه بآراء المؤرخين والنقاد، وهو قضية قبول بين المبدع والمتلقي بالدرجة الأولى، والناقد مجرد وسيط ذي وجهة نظر قد تصدق وقد يجانبها الصواب، ولا شك أن حرص الإسلاميين على المضمون الفكري واطمئنانهم له، سوف يجعلهم أكثر ثقة في ارتياد التجارب الإبداعية الجديدة في كل لون من ألوان الأدب شعرا ونثرا بذلك ينطلق الأديب الإسلامي في مجال الصور الفنية دون خوف أو عقد، ويدرك يقينا معنى الحرية الصحيحة في الإبداع، تحت مظلة الفكر السليم وقد يكون لبعضهم تحفظات على هـذا المنطلق، وربما يبدون وجهات نظر بصدده.. لا بأس !! لكن القضية ليست قضية حوار وجدل بالدرجة الأولى، لكنها في حقيقتها ممارسة وإنتاج وإبداع. وعبر التجارب الشجاعة نستطيع أن نتبين وجه الصدق، ونضع أيدينا على كل ما هـو إيجابي ونافع ومؤثر، فلا جدوى من أن نملأ الدنيا ضجيجا وجدلا صاخبا، دون أن نقدم النماذج الأدبية التي تعبر بصدق وجمال عن نظرية الأدب الإسلامي.
ويتضح لنا مما سبق أن للأدب الإسلامي جانبا خاصا وآخر عاما.
الجانب الخاص هـو جانب فكري يرتبط بالإسلام عقيدة وفكرا وتصورا وعاطفة، والجانب العام تمتمد جذوره إلى الإبداع العربي القديم وإلى التراث العالمي المشترك الذي ساهم فيه كل شعب بنصيب، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الفنية التي أصبحت في عصرنا ملكا للجميع، ولا تحجزها
[ ص: 21 ] نزوات التعصب العرقية أو الدينية أو السياسية أو المذهبية أو الجغرافية، ولقد ضرب أسلافنا الإسلاميون العظام أروع المثل حينما لم يحجموا عن قراءة تراث الحضارات القديمة، وسهروا على النظر فيه وترجمته ونقده والرد عليه سواء أكان إغريقيا أم هـنديا أم فارسيا.. فنحن - قديما وحديثا - جزء من هـذا العالم الكبير من حولنا، أعطيناه الكثير، وتبادلنا معه الخبرات والثقافات، وهذه سمة رائعة من سمات الحضارة الإسلامية الخالدة، التي تغذت بلبان الإسلام، وترجمت بصدق عن فكره وروحه.
ويستطيع القارئ المدقق المنصف أن يعرف - إزاء ما سبق - لماذا سميت هـذا الكتاب باسم (مدخل إلى الأدب الإسلامي ) ، حيث أبرزت الأسس الفكرية لهذا التوجه الإسلامي، وحاولت أن أتناول أهم القضايا والمشاكل التي كانت تطرح في الندوات العالمية التي عقدت بخصوص (الأدب الإسلامي ) والتي كانت تثور في أروقة بعض الجامعات، وعلى صفحات بعض المجلات المتخصصة والصحف، وفي الندوات النقدية المختلفة.
لقد شغلني موضوع الأدب الإسلامي في فترة مبكرة من العمر، ودفعني الحماس إلى كتابة عدد من المقالات في الصحف العربية تتصل بهذه الناحية، وكانت قراءاتي
للشاعر الفيلسوف محمد اقبال بداية اهتمامي الأساسي، وكثيرا ما رددت من شعره حول هـذا الموضوع، شبه فيها فنون المشرق بزيف ( السامري) - وهو من قوم
[ ص: 22 ] موسى - حينما صنع
لبني إسرائيل عجلا من ذهب له خوار، كانت هـذه الأبيات تقول:
يئست فلا أرجي في أنـاس لـهم فن كفن السامـري سقاة في ربوع الشرق طافوا
على الندماء بالكأس الخلي سحاب ما حوى برقا قديمـا
وليس لديه من برق فتـي >[2]
وكان لإعجابي بإقبال وتقديري الأثر الكبير في وضع مؤلف عنه تحت عنوان ( إقبال الشاعر الثائر )
>[3] ، ثم أصدرت كتاب (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) منذ أكثر من ربع قرن، ولقد كانت هـذه الدراسة المبدئية تعبيرا عما يلح في خاطري بخصوص قضية الأدب الإسلامي، لكني وجدت فيما بعد أن القضية أكبر من ذلك بكثير وأن المهمة الأولى لجيل الكتاب الإسلاميين اليوم هـي المشاركة الإبداعية الإيجابية في تقديم نماذج من القصة والشعر والمسرحيات، لملء الفراغ الناجم عن غياب الحركة الأدبية الإسلامية الجادة، إيمانا مني بأن النماذج الناجحة هـي الرد العلمي على حملات التشويه والتشكيك، وبدأنا..
وإذا كان الأدب الإسلامي قد اتسعت دائرة الاهتمام به في السنوات الأخيرة، فإن الجهد المبذول لم يزل دون الآمال الكبيرة التي تخفق في الصدور، ولا يفوتني في هـذا المقام إلا أن أشير إلى الأعمال الرائدة في هـذا المجال والتي قام بها إخوة فضلاء أوفياء أذكر منهم على سبيل
[ ص: 23 ] المثال لا الحصر
الشيخ أبو الحسن الندوي والإمام الشهيد حسن البنا ،
والسفير صلاح الدين السلجوقي ، والأخوان
الشهيد سيد قطب ومحمد قطب ،
والأستاذ الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا ،
والدكتور عماد الدين خليل والدكتور أحمد بسام ساعي وغيرهم من الشعراء وكتاب الروا ية والقصة القصيرة والمسرحية والنقاد.
ولقد كانت النية متجهة إلى أن أفرد فصولا لمختلف فنون الأدب لولا ضيق المقام، فضلا عن أننا قد أصدرنا قبل ذلك مؤلفات عن ( المسرح الإسلامي ) و ( أدب الأطفال في ضوء الإسلام ) ، ونأمل إن شاء الله في المستقبل أن نفرد مؤلفا لأدب القصة لأهميتها..
والله أسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يسدد على طريق الحق والخير خطانا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
الدكتور نجيب الكيلاني [ ص: 24 ]