مدخل إلى الأدب الإسلامي

الدكتور / نجيب الكيلاني

صفحة جزء
البطل في الأدب الإسلامي [ ص: 49 ]

البطل في العمل الأدبي - قصة أو مسرحية أو ملحمةـ هـو تجسيد لمعان معينة، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها، وقد يكون هـذا البطل أنموذجا يحتذى، أو مثالا سيئا يولد النفور والاشمئزاز، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولا أو رفضا، وكلما كانت الشخصية - البطل - قريبة من الواقع، حافلة بعناصر الإقناع، مكتملة الملامح والسمات، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيرا.

ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم، تجعله أكثر تحديدا وظهورا، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هـذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها، وعواطفها وأفكارها وأحلامها، وتطورها من حال إلى حال، وقد تصاب هـذه الشخصية - لأسباب فنية أو موضوعية - بالتجمد أو التحجر.

وترتبط شخصية البطل - وخاصة في المسرحية - بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان، وهذه كلها - في كثير من المواقف - جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية.

وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديما وحديثا من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئية، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعادا داخلية وخارجية متميزة، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات [ ص: 50 ] العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث، وما يناط بالمرء فيها من عمل، وطرائق كسب العيش، والانهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك.

وكانت الترجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار، بينما حفلت الواقعيات الحديثة بالإنسان العادي البطل، الذي يصارع من أجل حياة أفضل، وكان المثال - البطل - الإغريقي يصارع قوى الشر وآلهة الأولمب ، وفق قناعات وثنية مادية، بينما المثال في الواقعية الاشتراكية مثلا ينازل التمايز الطبقي، والاستغلال الرأسمالي، في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقا لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي، وانتصار طبقة بعينها هـي طبقة البروليتاريا .

ويتميز البطل ( الوجودي ) بحساسية مفرطة، ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة - صحيحها وباطلها - وينفر من القيم الدينية والأخلاقية، ويظن أن هـذه إنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده، ولذلك جاء البطل متمردا رافضا ساخطا على كل شيء في الحياة القائمة.

وفي هـذا الجو أيضا ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هـو نعم بالإيمان الموروث، ولا هـو ابتدع بناء خلقيا جديدا، بل لم يجد أي جدوى من هـذا أو ذاك، [ ص: 51 ] فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللافلسفة فلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هـذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطل وظيفة الضمير، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح.

وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساه، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هـذا الكابوس الرهيب.

وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليدا للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يشمه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو الميتافزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسه بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها.

كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة - أو الأربعة - الأخيرة يسيران جنبا إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة [ ص: 52 ] الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية وغيرها، حتى أن الدارس لهذه المدارس جميعها يخرج وهو في حيرة بالغة، وتشتت فكره التناقضات فلا يستطيع أن يمسك بحقيقة واحدة

مؤكدة في هـذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل إن الدارس أيضا يقف مذهولا وهو يقرأ تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولا بالنسبة لاتجاهات فنية تتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان، أما الفلسفات - وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق - فإن الأمر يعتبر غريبا، وخاصة أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج.

ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا إبان ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيما دينية وأخلاقية، وصاغوها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج فنية قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.

في هـذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية ( البطل ) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هـذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ [ ص: 53 ] والصمود، وبدا البطل بصفة عامة - كإنسان العصر - غريبا، هـذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطا رافضا متمردا، لا يعرف الطمأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة أو الحب الحقيقي، إنه يعاني الأرق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خواءه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة والإرادة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة.. ذلك هـو البطل المعاصر في الآداب الأوروبية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب.

بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل، بطل منطو منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحده.

بطل هـارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدرات والشذوذ، يمضي مختارا إلى حيث الفناء.

بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعه الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء.

بطل بلا فضيلة.. [ ص: 54 ]

ولو كان هـذا الإنسان مدركا حقا لمأساته، راغبا في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال ( العلم ) فيما يقدم من تحليلات وتفسيرات، قد زاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.

والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هـو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟

إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل - إسلاميا - هـو ( القدوة ) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هـذه ناحية هـامة، لكنها لا تغلق الباب أمام ( نماذج ) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هـام لا بد وأن يحتفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج الشائهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديما وحديثا، وشرقا وغربا، بل ربما كانت هـذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لأنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدوة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصرا على النماذج الصالحة الطيبة وحمايتها من الانزلاق أو المروق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، [ ص: 55 ] وفتح باب الأمل أمام اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال.. البطل في العمل الأدبي الإسلامي هـذا.. وذاك.. لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة.. كل هـذا يعتبر ضربا من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولا، وفي معترك الحياة ثانيا، ومن هـنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها بابا مفتوحا حتى نهاية الحياة.

والبطل في الأدب الإسلامي ليس حكرا على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاضل فيه ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات: 13)

( لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ) ، والتقوى ليست صلاة وصوما وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزراعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي جاء بها الإسلام الحنيف.

شخصية البطل إذن قد تكون ( بلال بن رباح ) العبد الحبشي، وقد تكون ( أبا بكر الصديق ) خليفة المسلمين، وقد تكون ( سلمان الفارسي ) [ ص: 56 ] أو ( حمزة بن عبد المطلب ) القرشي، وقد تكون ( سمية ) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعا، أو شيخا مسنا.

إن البطل - كما قلنا - تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دورا تمتزج فيه المنفعة بالمتعة لدى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقا وشمولا، وكأن المتلقي في هـذه الحالة يتحول - تلقائيا - إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هـذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا فماذا تكون وظيفته إذن؟؟

لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل ؟؟

إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائيا، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو [ ص: 57 ] جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها الملفتة للنظر، فيرى الكاتب أن هـذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دورا أخاذا في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكا أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعمله الأدبي..

لكن الأمر لا يقف عند هـذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هـي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالا وسمات جديدة، ويحشد لها الأحداث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادرا على أداء دوره، وفي هـذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: الشكل فيما أعتقد هـو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد أستفيد مثلا من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي.. إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتدادا له أم تطويرا، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية.. فالجديد هـو الفنان نفسه.. والفنان بالطبع هـو عصره.. [ ص: 58 ]

وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هـي البداية، ولكنهم يبدءون بالفكرة، إن أدبيا مثل ( برنارد شو ) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام ( الفكرة لديه هـي البطل الحقيقي ) فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكرة أكثر من ارتباطها بالبطل ، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على ( وضع ) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها ولو على حساب جزء من الصياغة الفنية.

ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية أن الشخصية في العمل الأدبي قد تتمرد!! كيف ؟؟ إن الكاتب يضع تصورا عاما عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها، لكن اندماجه في العمل، ومسيرته في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالا، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف إليها سمة أو عملا أو قولا لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هـذه الصورة الحتمية في الواقع؛ لأن يقظة الكاتب واستيعابه لأطراف القضية المطروحة تجعله قادرا على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى [ ص: 59 ] من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاما للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.

ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي، هـل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعا من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب ؟؟

إن الكاتب إذا التزم حرفيا بما جاء في كتب التاريخ، فلن يقدم عملا فنيا، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنيا والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعة قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلا، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجه في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالا وثيقا، إن فهم [ ص: 60 ] الشخصية على هـذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هـذه الشخصية المعروفة، لكن يظل ( الخطر) ماثلا بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ.

ولقد عانيت من هـذه المشكلة حينما كنت أكتب رواية ( عمر يظهر في القدس ) ورواية ( قاتل حمزة ) وكذلك رواية ( نور الله ) وغيرها، لكني كنت حريصا أشد الحرص على ألا تأتي الشخصية الروائية بأفعال أو أقوال تتناقض مع طبيعة الشخصية التاريخية، ولم أجد في تقرير لجنة مسابقة مجمع اللغة العربية التي أعطت جائزة الرواية لقاتل حمزة (1972م) ما يشير إلى اعتراض اللجنة على منهجي في كتابة هـذه القصة التاريخية، وخاصة أن شيخ الأزهر آنذاك كان عضوا باللجنة.. وبالطبع فإن هـذه ( الرخصة المقترحة ) إن صح التعبير لا تنطبق فيما نكتبه على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.

ولا بد أن نشير إلى أن الشخصية الواقعية - سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي - تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبولة، حتى على مستوى الأطفال، الذين أصبحوا أكثر ميلا للواقع في هـذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة. [ ص: 61 ] ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعول والمحك في النجاح أو الفشل.

***


لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقا، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، وألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هـذا التشويه إلا جمالا ومثالا يحتذى، ودور الأدب الإسلامي - وفق منظوره الإلهي - أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هـدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكريا ونفسيا وسلوكيا أصبح ينتزع في الغرب التصفيق والإعجاب والتعاطف.. ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس ( الإيدز ) ذلك الداء اللعين... [ ص: 62 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية