اللامعقـول
لقد أكد (
مالرو ) على أن العبثية تسيطر على اللحظات الجوهرية في حياة الأوربي، أي أنها ذات سمة أوربية ترتبط بزمان ومكان وطبيعة خاصة، كما أشار (
تاينن ) إلى أن رنة اليأس المتميز تشيع في نبرة العبثيين، ولقد استطاع بعضهم أن يلخص مأساة العبثية أو اللامعقول في جملة صغيرة حينما قال: وجوب غياب الإله، لكي يوجد اللامعقول، والمعنى القاموسي لكلمة ( لا معقول ) : غير منسجم مع العقل أو اللياقة = أو التضاد مع العقل = أو مضحك أو سخيف، وفي قاموس المسرح جاء عن اللامعقول مانصه:
( مصطلح يطلق على جماعة من الدراميين في حقبة 1950م لم يعدوا أنفسهم مدرسة، ولكن يبدو أنهم كانوا يشتركون في مواقف بعينها نحو ( ورطة ) الإنسان في الكون.. وتشخص الدراسة التي قدمها الوجودي (
البير كامي ) مصير الإنسانية على أنه انعدام هـدف، في وجود غير منسجم مع ما حوله.. والوعي بهذا العوز للهدف في جميع ما نفعل، يؤدي إلى حالة الكرب الميتا فيزيقي (الماوراء طبيعي ) ، وذلك هـو الموضوع الرئيس لدى كتاب مسرح اللامعقول مثل (
بيكيت ) و (
أونيسكو ) و (
بنتر ) وغيرهم، وبحلول عام 1962م استنفدت الحركة قوتها، برغم أن آثارها في تحرير المسرح التقليدي ما تزال ماثلة
>[1] .
[ ص: 65 ]
لقد جعلوا من المسرح مركز تجمع لصراع الخيال البشري السقيم الدائم ضد القناعة الدينية، وعدم الاكتراث الأخلاقي والانعزالية الاجتماعية، وهذا نابع من إيمانهم بأن الشقاء دائم، وأن العالم كابوس وجودي، يغيب عنه العقل والسماح والأمل، ولهذا نرى مسرحهم ينطق بالآتي:
- خيبة الأمل.
- ضياع اليقين.
- انعدام المعنى في الحياة.
- ضياع المثل العليا.
- غياب أي تفريق واضح بين الوهم والحقيقة.
- التهريج والهراء اللفظي.
- تغليب عناصر الحكاية المجازية.
- الاهتمام بموضوعات الموت والعزلة والتغريب والرؤية الفردية للعالم، والقلق والخيبة، والشعور تجاه غياب الحلول، بعد أن رفضوا الأنظمة القائمة والأديان والفلسفات التقليدية
>[2] .
ولقد حاول المحللون دراسة هـذه الظاهرة في الأدب والفكر، فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب، واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة، ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة
[ ص: 66 ] الرهيب، مما دفع بالإنسان لأن يتساءل عن قيمة وجوده، في هـذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل إلا بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح، والنمو السريع، والانتصار في معركة المنافسة الضارية.. لم يعد الإنسان مخلوقا مكرما مشرفا روحيا، بل أصبح جسدا وعملا وطعاما ومخلفات، وأصبحت الساعة ( الزمن ) تحدد حركاته وسكناته، حتى أصبح يعتبر الزمن قوة تدمير هـائلة لكيانه وأحلامه وأشواقه، وكان طبيعيا لهذا الكائن الذي انقطعت روابطه بخالقه، وفقد التواصل مع الآخرين، أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب، ويلوك الأسى والشقاء، ويفسر أحد الدارسين آراء
البير كامي بقوله: ( إن كان في الحياة خطيئة، فهي ليست في اليأس من الحياة، قدر ما هـي في الأمل في حياة أخرى.. ) أي أن الخطيئة الكبرى في رأيه هـي الإيمان بالعالم الآخر، وهي محاولة منه لقتل الأمل نهائيا في نفوس التعساء والمعذبين والمقهورين في عالم المدنية الأوروبية الحديثة.
ومع ذلك فإن الأدب المسرحي في اللامعقول لا يجادل بل يعرض فقط تلك التصورات المريضة، والكوابيس المخيفة، والهرطقات المحزنة، ولم لا وقد أصبح الإنسان بلا هـدف، أصبح ( شيئا ) بعد أن كان ( كائنا ) - حسب قولهم - وأصبحت اللغة أيضا شيئا ميتا، يحد من التواصل، ويؤكد العزلة.
لقد أحدث العلم والفلسفة في أوروبا فراغا هـائلا، وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه وعلى الآداب التي يفرزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولا تقدم شخصيات تحب أو تكره،
[ ص: 67 ] فضلا عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار، وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون : إن فكرة العبثية لا يمكن الدفاع عنها، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بديانة تجعل الحياة ذات نظام وهدف ومع الكفر بالله عند العبثيين غالبا إلا أن عبثية (
بيكيت ) و (
كافكا ) تدرك أن الحياة البشرية بدون الإيمان بالله تواجه الخيبة، ومع ذلك فإنهما - عدا هـذه النقطة - يدمرون الكثير من القيم الخلاقة المتألقة التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه، ولهذا يقول ( مار وفتز ) : (اللامعقول مرادف للتافه والمضطرب ) ويقول آخر: ( إنها مرادف لكلمة الفوضى ) .
لكن هـل هـناك فرق بين ( العبثية ) و ( اللامعقول ) ؟
نحن نقول ( اللامعقول ) عندما نتحدث عن الأدب.
ونقول ( العبثية ) عندما نتحدث عن الفلسفة..
أي أنهما وجهان لعملة واحدة..
ثم إن هـذه وتلك تتداخلان مع
الوجودية ، برغم وجود بعض الاختلافات، ولم لا ونحن نرى كاتبا مثل (
البير كامي ) وجوديا وعبثيا في الوقت نفسه، وإن غلبت عليه الصفة الأولى، والأمر غاية في البساطة، لأن الحدود القاطعة بين مذهب وآخر لا وجود لها، بل إن أصحاب المذهب الواحد - كما قلنا - قد يختلفون أشد الاختلاف في الرؤية والتفسير والتعبير.
بقي أن نمعن النظر في تلك العبارة الهامة التي قالها أحد الأوروبيين:
( إن المرض يستشري نحو الشرق ) .
وهذا ما ألمحنا إليه في بداية هـذا الفصل، إن التحذير من الغزو الثقافي يجعل بعض المتحررين وأدعياء التطور والحداثة، يرفعون عقيرتهم منددين
[ ص: 68 ] معترضين وينكرون كلية مقولة الغزو الثقافي والفكري ، ويفلسفون ذلك بأن عالم اليوم أصبح وحدة واحدة، بعد أن ذابت الحدود إزاء التطور الإعلامي الهائل، وأننا في حاجة إلى كل جديد، وأن معاداة التيارات الفكرية الغربية جمود ورجعية، أليس غريبا أن نسمع هـذا القول من أخوة يعيشون بيننا في الوقت الذي يحذرنا فيه الأوروبيون المنصفون من ذلك ( المرض الذي يستشري نحو الشرق ) ؟ أليس مرضا أن يقول
سارتر : الإنسان عندما يقبل فكرة الحرية، لا تعود الآلهة قادرة على التدخل في شأنه ؟؟ أليس مرضا أيضا أن يقول: اللغة والعالم منفصلان دونما أمل في رجعة، ولا يمكن تجنب هـذا الانفصال، إلا بوضع الكاتب في وضع متطرف ؟؟.
ثم ما هـو هـذا الوضع المتطرف؟
ثم ما هـذا التناقض بين مقدمة القول وآخره ؟؟
إن العقيدة الإسلامية، وما يصاحبها من قيم وتشريعات وآداب، ومنهجها الإلهي القويم قد استجابت للفطرة السلمية، وأعطت تصورا واضحا للإنسان وماهيته وطبيعة تكوينه وسلوكه، ثم بينت مختلف نوازعه وأهوائه، ورسمت الخطوط العامة لعلاقاته المتعددة الجوانب والنواحي، فالحرية مكفولة تماما لهذا الإنسان الذي كرمه الله، وبين له سبحانه وتعالى طريق الخير وطريق الشر
( وهديناه النجدين ) (البلد:10) ،
وعلمه أن الحياة جهد دائب، وصراع مع الشيطان مع الشر، وزوده بالأسلحة التي يمكنه أن ينتصر بها في هـذه المعركة الحاسمة، وأكد لعبده أن النصر له ما استمسك بكتابه وسنة نبيه:
·
( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) (الروم: 47)
·
( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ( الإسراء :65) .
[ ص: 69 ]
·
( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد:7)
·
( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال: 24)
·
( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108)
·
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون *
إن الله هـو الرزاق ذو القوة المتين ) (الذاريات: 56 - 58)
·
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام: 162) .
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة: 186)
·
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون *
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون *
نزلا من غفور رحيم *
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين *
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هـي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم *
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) (فصلت: 30 - 35)
·
( ولقد كرمنا بني آدم ) ( الإسراء: 70) .
[ ص: 70 ]
تلك بعض الآيات - على سبيل المثال لا الحصر - لم أهدف إلى شرحها، فليس هـذا مجاله، ولكني أردت أن أؤكد أن منطلقاتنا العقائدية أو الفكرية، قد حمتنا من براثن السقوط في متاهات الخوف والعزلة، واليأس والكفر، ولم تدفع بنا إلى رذيلة الوثنيات القديمة والحديثة في تحدي الله والقدر ( حاشا لله ) ، ولم تجعل من الموت كابوسا مزعجا، ولا حجة للهروب من الحياة والجهاد الأعظم فيها، ولم تنظر إلى الدنيا على أنها نهاية المطاف، وهكذا أشاع الإسلام قيم الحب والخير والفضيلة، وأحل الطيبات والاستمتاع بها بالأسلوب الصحيح، وحرم الخبائث والشرور والآثام لحماية الفرد والمجتمع، ومجد العقل والوعي والنظر إلى الأمور بروية وحكمة واعتدال، كما اعتبر مشاكل الحياة والناس وما نصطدم به من سلبيات أمرا لا بد منه، لكنه أوضح لنا كيف نواجه تلك الأمور المعوقة عن وعي وبصيرة، حتى تتقدم الحياة في طريق النمو والازدهار، وحتى ترفرف رايات الاطمئنان والرضا فوق جميع من يعيشون على هـذه الأرض الشاسعة.
وانفصال اللغة عن العالم منحى خطير، بل هـو مقولة ساذجة، ولو أن هـذا الانفصال كان دون رجعة كما يزعم (
سارتر ) ، لما أفصحت كلماته عن فكره، ولما تلقى الجمهور مسرحياته وقصصه وانفعل بها أو أنكرها، ولما أثارت ذلك الجو العاصف من اللغط والجدل، ولما استطاعت اللغة أن تترجم قوانين العصر العلمية، وتعبر عن منجزاته التكنولوجية، نستطيع القول: إن اللغة قد تقصرـ عند هـذا أو ذاك - في أداء وظيفتها، وقد تعجز عن التعبير الوافي الشافي عما يدور في فكر الإنسان ومخيلته ونفسه، وقد تتخلف اللغة عن مواكبة المسيرة الإنسانية في وقت من الأوقات، لكن الجهود الإنسانية النبيلة الصادقة
[ ص: 71 ] تدأب دائما في استكمال النقص، وسد الثغرات، فهو أمر مرتبط بطبيعة الحياة بقدر ما يجد من وقائع، وبطبيعة الناس بقدر ما يلزمهم من تطوير وسرعة في الفهم والاستيعاب، فاللغة لم تنفصل عن العالم دونما رجعة كما يقول
سارتر ، لم تصبح شيئا ميتا كما يزعمون.
إن المشكلة عند هـؤلاء المفكرين تكمن في ذلك الخلل الداخلي الذي ابتلوا به، وفي الخلط الأهوج بين الوسائل والغايات، وفي سوء النية والعداء العجيب الذي ولدوا وعاشوا في ظله، تحت وطأة الحياة الآلية الحديثة، وترجع أولا وأخيرا إلى الخواء الروحي الذي دفعهم للتهكم من القيم، وإنكار العقيدة الدينية.
في وقت الاحتضار تلفت سارتر حوله في قلق وحيرة:
قالوا له:
- ( أتريد شيئا ) .
وفغروا أفواههم دهشة عندما سمعوه يقول:
- ( أريد قسيسا ) .
انزعجت رفيقته الشهيرة ( سيمون دي بوفوار ) وقالت:
- ( معنى ذلك أنك تدمر فلسفتك ) .
لم يلتفت إلى قولها، ولكنه استطرد:
- ( لا أريده من باريس.. بل من القرية.. أتفهمون ) .
وأصر على طلبه في الالتقاء برجل الدين برغم احتجاجهم واعتراضهم.. لقد كانت قضية العبث باللغة ذات أبعاد خطيرة في وطننا العربي، فقد هـاجم الكثيرون من فاسدي الفكر والدين قواعد العربية وآدابها وتراثها، وحاولوا
[ ص: 72 ] التهوين من شأن أسسها، بل وهاجموا قواعد الشعر من قافية ووزن ووضوح، وتلوثت فنون القصة والمسرح والشعر بهرطقات العبثية واللامعقول
والوجودية ، ووجدت هـذه الدعوات الشاذة آذانا صاغية لدى الذين يعيشون على أرض الإسلام بلا قيم أو جذور، إن
الدكتور عبد القادر القط أستاذ الأدب الحديث السابق، ورئيس تحرير مجلة ( إبداع ) يعلن في صراحة أنه لا يفهم الكثير مما يكتبه بعض الأدباء أو الشعراء المحدثين (وهو الأستاذ الشاعر الناقد ) ، وينشر بعضا منها في مجلته تحت عنوان ( تجارب ) لعل أحدا غيره يستطيع أن يفهم أو يستوعب ذلك اللون الغريب من الأدب.
( إن اللغة كما يقول أحد نقاد الغرب الكبار - هـي حقا ذلك الرباط الفريد الذي يصل العالم الذاتي بالموضوعي.. إن اللغة تصوير كامل للعلاقة الجدلية بين أنفسنا والعالم )
>[3] .
ونحن كمسلمين لنا باللغة العربية - لغة القرآن - رباط وثيق، لا تنفصم عراه أبد الدهر، وقد كتب الله لهذه اللغة الخلود لخلود القرآن، ذلك المنبع الإلهي لعقيدتنا وتشريعاتنا وأحكامنا وقيمنا السامية، واللغة العربية بما فيها من إعجاز وحيوية وثراء لم تتقاعس في عصر من العصور، أو تتخلف عن مواكبة التطور وأداء دورها الخالد في أي وقت من الأوقات.
إن الأدب الإسلامي لا يورث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة والعمل، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة
[ ص: 73 ] ويمجدها، ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد، وهي قنطرة إلى عالم آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة - في منظور الأدب الإسلامي - وهما وحلما مزعجا وخيبة أمل وتغريبا وعزلة، ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة، مشرقة بالأمل والرجاء، دافئة بالأخوة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة، وأن يبعث فيها رسالة العدل والخير والحرية والحب، وأن يبذر فيها العطاء والنماء، حتى تتألق بالنعمة والجمال والسعادة.. وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة، واثقا أنه ذاهب إلى أعظم جناب..
الأدب الإسلامي ليس أدب يأس وانتحار.
لكنه أدب أمل وحياة.
فرص علينا أن نواجه ذلك ( المرض الذي يستشري نحو الشرق ) .
[ ص: 74 ]