الأدب الإسلامي وعلم النفس
[ ص: 131 ]
لقد ثار كثير من الجدل حول علم النفس الحديث، وتنوعت مدارسه، كما اختلفت مناهجه ونتائجه في بعض الأحيان، ولقد تعرضت نظريات
فرويد لكثير من ردود الأفعال وكثر الجدل بين المؤيدين والمعارضين، وفي اعتقادنا أن هـذا أمر طبيعي نظرا لما تحفل به النفس الإنسانية من غموض وتعقيد وظلام، فهي أشبه بالغابة المترامية الأطراف، المليئة بالوحوش والكائنات الغريبة المتنوعة، وبالأشجار والنباتات والهوام والعناصر الطبيعية التي تفوق الحصر، والذي يعرفه العلماء عن النفس الإنسانية مجرد قطرة في بحيرة شاسعة، وليس هـذا بغريب، فالجسم - المادة المرئية - لم نصل بعد لأسرار تركيبه وعمله بصورة شاملة، بل لم نستطع، إلا في أضيق نطاق - معرفة العلاقات التفصيلية بينه وبين النفس، وما زال الجهاز العصبي المركزي - وهو جهاز من أجهزة جسم الإنسان - يطوي في طبيعة تكوينه الأسرار التي لا حصر لها.
ولقد قدم لنا التصور الإسلامي مفهوما شاملا للنفس الإنسانية، مع التركيز على النواحي العملية في حياتنا، فتناولها من حيث دوافعها وغرائزها وأهوائها وهواجسها، واهتم بحالات ضعفها وقوتها وتذبذبها، وأبان عن أسلم الطرق لترويضها أو التصدي لنزواتها، هـادفا من وراء ذلك إلى إقرار الأمن الفردي والاجتماعي، وصلاح الأمور واستقامتها في هـذه الحياة القصيرة التي نحياها. ومن التجني أن نقوم بتخطئة علم النفس الحديث تخطئة كاملة، فنرفضه رفضا تاما، إذ لا شك أن هـناك بعض الإضاءات التي سلطت الضوء على جوانب ولو ضئيلة من جوانب النفس
[ ص: 132 ] الإنسانية، وكثير من هـذه الاكتشافات القليلة قد يتفق مع المفهوم الإسلامي بطبيعة النفس الإنسانية، ومع واقع التجربة العلمية المستوفية للشروط الصحيحة، ولقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عامرة بالتجارب الغنية بالدلالات، وبالشروح والتوجيهات النفسية العميقة، واستطاع علماء المسلمين في العصور اللاحقة أن يستخدموا تراث الإسلام، وتجارب الأقدمين، ونظرات الفلاسفة في إثراء الدراسة والبحث حول النفس الإنسانية، وإن لم يقوموا ببناء هـياكل معرفية للنفس على نمط علم النفس الحديث، لكن لا مناص من الاعتراف بأن مفاهيم علم النفس ونظرياته لم تزل في حاجة إلى الكثير من الجهد العلمي والتجريبي لاكتشاف جوانب جديدة من تلك الغابة الغامضة المترامية الأطراف، لكن يجب أن نشير إلى أن المفهوم الإسلامي للنفس الإنسانية من خلال القرآن الكريم ونصوص الأحاديث النبوية وأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم تفي بالغرض في تحقيق تكامل صحيح واضح للتصور الإسلامي، ولو واصل العلماء المسلمون سيرتهم في تفهم النصوص القرآنية الخاصة بالإنسان والنفس، والعلاقات المتشابكة في صميم الكيان الإنساني لبلغوا درجة عظمى من الفهم في هـذا المجال، ولتجنبوا الكثير من التخبطات والمزالق التي وقع فيها "
فرويد " وغيره من العلماء المحدثين.
والأدب الإسلامي في عصرنا مطالب بأن يتسلح بالمعارف الإنسانية المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع، فلا غنى له عن علم الاجتماع ولم النفس وغيرهما، حتى يخوض تجربته على وعي وبصيرة، بشرط ألا تكون هـذه العلوم قيدا على حركته أو تتحكم في رؤياه الخاصة، لأن
[ ص: 133 ] عدم تحرره من سلطان الحتمية التي تتوهمها مثل هـذه العلوم قد يضر بإبداعه، ويحرفه عن الوصول إلى الحقيقة المجردة، ويعجبني في هـذا المقام ما كتبه الأمريكي "
برنارد دي فوتو "
>[1] إذ يقرر: فالقصاص ( الأديب ) ينبغي أن يقترب من الحياة بصورة مباشرة لا عن طريق أية نظرية، حتى ولو كانت خاصة بالطب العقلي حول الدوافع والانفعالات، يجب أن يكتب في دائرة ما يجده في الحياة، فهو يتعامل مع الناس، لا على أنهم قضايا تاريخية، ولا على أنهم يمثلون نفسيات شاذة، بل ينبغي أن يتعامل معهم بوحي حكمته هـو، لا على أساس تجربة شخص آخر حتى وإن كان "
فرويد " نفسه، فإلباس حقائق الطب العقلي ( النفسي ) الثوب القصصي - بدلا من وصف واقع الناس وهم يتألمون - إنما هـو فن كاذب، ورموز القصة، وكذلك شخصياتها، يحسن أن تبرز من الواقع بدلا من أن تخلق باستخدام اللوغاريتمات، فهي قبل كل شيء رموز للفن قبل أن تكون رموزا للطب العقلي..
والقصص التي تدور حول مسائل الطب العقلي ( النفسي ) مهما تكن مؤثقة بالخبرة، تظل مع ذلك مجرد قصة تقريرية إلا إذا سما القصاص بمادتهم... إن الطب العقلي يتناول المادة نفسها التي تتناولها القصة مثل العاطفة الإنسانية والدوافع البشرية والسلوك الإنساني، ولكنه يتناولها بطريقته الخاصة، ويستنتج تفسيراته، ويطبق مناهجه الخاصة،
[ ص: 134 ] ولو أن القصة ( مثلا ) اختارت أن تهجر طريقتها الذاتية لتستبدل بها مفاهيم الطب النفسي، فإن الطب العقلي سيلح في المعارضة حينما تؤدي الوسائل المستعارة إلى الضحالة والخطأ، أو إلى نتائج خداعة.. إن معرفة علم النفس لا تعني الترويج أو التقيد بما أنجزه، فللكاتب هـو الآخر قدرة الإبانة والكشف عن مجاهل النفس الإنسانية، وقد يكتشف من خلال تجربته الفنية آفاقا جديدة، بأساليب ذاتية خاصة تختلف عن أساليب علماء النفس، فالفن - قبل العلم، استطاع أن يشحذ خيالات البشر وأفكارهم كي يصعدوا إلى الكواكب البعيدة، ويستخدموا الآلات الخرافية، فكانت أحلام الشعراء والأدباء المبكرة بداية الطريق لمن أتى بعدهم من أجيال العلماء، وإذا كان ما نقوله هـنا يرتبط بعلم النفس بالذات، ذلك المجال الذي لم تتضح آفاقه كاملة بعد، فإن هـناك بعض الحقائق الثابتة التي ليس في الإمكان أن يتجاهلها الأديب أو يخطئها، كذلك لا يستطيع أن يهدر القيم العليا التي أقرتها الأديان السماوية، وفي هـذه النقطة بالذات لا نتفق مع "
برنارد دي فوتو " الذي يعمم وجهة نظره التي أثبتناها على كل ما هـو خارج نطاق ذات الأديب، لا بالنسبة لنظريات الطب النفسي وحده، وهو تصور يختلف مع ما ندعو إليه بالنسبة للأدب الإسلامي الذي ينظر إلى كل ما في الحياة من خلال تصور إسلامي صحيح..
وبعض النقاد يشيدون بالأدب الذي يفرزه فنانون أصيبوا بالاضطراب النفسي وبأمراض العصاب ( الهلوسة ) أو البارانويا ( جنون الاضطهاد ) وغير ذلك، على اعتبار أن أدبهم يعرض عالما مثيرا ممتعا إنه يعتبر تنفيثا
[ ص: 135 ] عما يكربهم ويحزنهم، والواقع أن مثل هـذا اللون من الأدب - من منظورنا الإسلامي - لا يعني سوى الإشارة إلى خلل ما في طبيعة الإنسان وفساد عقيدته ومجتمعه وحياته، لأن مثل هـذه العلل وليدة ظروف معينة، كما يعني أيضا نشرا لتلك الانحرافات وهذا الخلل، فيتحول ذلك الانهيار النفسي إلى وباء، من جراء العدوى النفسية والفكرية إن صح التعبير، وقد يصبح ذلك في المجتمعات الأوربية والأمريكية نموذجا يحتذى، وربما يصبح المريض النفسي بأدبه المثير فيلسوفا يضع للحياة تصورات براقة شاذة تستهوي المتحللين والهاربين والمتمردين.
وإذا كان الأدب الإسلامي وسيلة لغاية أسمى في حدود مفاهيمنا فمن الخطأ الا يكون الأديب الذي يترجم عن تلك الوسيلة في حالة من اللياقة الفكرية والنفسية والفنية تؤهله لأداء هـذه الرسالة، ومن الصعب أن نتصور أن المعتلين نفسيا يستطيعون أن يوجهوا البشرية إلى شاطئ السلام، أو أن يبدعوا أبنية فكرية ومادية لصرح حضاري، أو أن يبشروا بنمط معين لإحياء قيم الخير والعدل والجمال، والمعوقون عقليا يستدرون العطف والرثاء، وقد يأتون من الأقوال والأفعال ما يثير الدهشة والغرابة، أو يدعو إلى الضحك، لكنه من السخرية المرة أن يكونوا مثلا يحتذى، أو مصدرا من مصادر الإصلاح والهداية واستقامة الحياة..
إن الأدب لا يكشف عن خبايا الحياة فحسب، ولكنه ينتقدها أو يمدحها بتسليط ضوء قوي عليها، وحركة القصص الصادقة مثلا تكون في أكثر من مكان في وقت واحد، فهي داخل الضوء وخارجه، وداخل العتمة والظلام وخارجهما، وعن طريقها نلمس غموض وغرابة حياتنا
[ ص: 136 ] وكل الحيوات الأخرى، يقول "
دي فوتو "
>[2] إن القصص تزيد من تجاربنا، وتقرب رؤى العمر لتجعلها في مدى القراءة، وبهذا تكشف لنا حيوات أكثر مما يتاح لنا رؤيتها في مدة حياتنا، وتزال الأوشاب من هـذه الحيوات حتى نقتنع - بحسب قدرة الكاتب وقدرتنا - بأن نفهمها..
وتظل تلك الحيوات ماثلة أمامنا، بل إن قدرا مما نعرفه عن الإنسان وظروفه، إنما يصل إلينا عن طريق البوابة التي تفتحها القصة لنا، فاللهب قد ازداد حرارة، وأخذ ضوؤه يشتد، وسواء أكان يسطع على رعب حياة أم اعتدالها أم قوتها، فإن شيئا قد أضيف إلينا، ولا شك أن كلامنا لديه - ولو قدر ضئيل - من حسن الفهم والحكمة والثورة ضد الامتهان، ولكن قدرا مما لدينا يأتينا من حقيقة أننا نظرنا في صفحة، ورأينا أناسا واقعيين في حالة من الحالات " .
***
النفس الإنسانية هـي المجال الأخصب للفنون والآداب، والرؤية النفسية لدى الأديب تنبع أساسا من منطلقين: الأول : هـو تجاربه الذاتية حيث يتعرض في حياته لانفعالات وعواطف ومواقف، ويتعرض لمشاكل، وتكون لديه ردود أفعال خاصة به، ويتكون لديه بعض المفاهيم والقناعات الشخصية، ومن ثم يترجم عن ذلك كله في أدبه قصصا أو شعرا أو مسرحا، أما المنطلق الثاني فهو ما يجري أمامه من وقائع وأحداث في خضم الحياة، فيتابعه بوعي، ويحاول أن يبحث عن
[ ص: 137 ] الدوافع والمؤثرات والنتائج وفق منهجه وتصوراته، وقد يتناول ذلك بموضوعية على قدر استعداده.
والأديب بين هـذا المنطلق وذاك يستلهم خبراته ومعتقداته، ويخضع تفسيراته الخاصة التي تتعلق بواقع الأعراف والتقاليد، لمؤثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وهكذا يبدأ صياغة عمله الفني وهو غارق في عديد من العوامل والصراعات، ثم يعيد تشكيل مادته وفق إبداعه، فتولد شخصيات، وتمتد علاقات، وتنطق أصوات، وتتبدى ألوان، وتشتعل مشاعر، وتتألق أفكار، وتتدافع تيارات، وهكذا تتولد ديناميكية العمل الفني، ذات الخصوصية، ومهما قيل عن الديناميكية الذاتية للعمل الفني، والتي قد تحتم على الأديب أن يتجه وجهة ما، فإن الأديب يظل هـو ( المايسترو) الذي يضع النظام، ويتجنب النغمات الناشزة، ويحمي شطآن النهر المندفع من المنبع إلى المصب بوعيه وقدرته.
وسواء انطلق الأديب في رؤيته النفسية من ذاته أو من مراقبته لواقع الأحداث، فإنه قد يستفيد لحد ما من منجزات علم النفس الحديث، لا ليطبقها حرفيا، بحيث تقود خطاه، وتحدد خط سيره، وتلزمه إلزاما بنظرياتها، ولكن لتفتح أمامه مزيدا من الأبواب المغلقة، وتمده بقدر من الوعي يساهم في حماية حركته، ولقد ازدادت الحاجة إلى علم النفس الحديث في مجالات الإعلام المختلفة، ونقصد به الإعلام العام الذي يوجه للجماهير، ويدفعهم إلى اتخاذ مواقف معينة إزاء قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية بعينها، ولم يعد مستغربا في عصرنا أن نقرأ قصة
[ ص: 138 ] أمريكية مثلا تثير الناس فيها ضد
الماركسية وفسادها، أو ديوانا من الشعر يعلي من شأن حاكم وفلسفته في الحكم، أو مسرحية تتغنى ببطولات قومية، وتؤجج الصراعات العرقية والدينية في مجتمع من المجتمعات، أو نشاهد فيلما سينمائيا يعلي من
شأن الجندي الأمريكي أو الإسرائيلي، أو مسللا تليفزيونيا يشايع حركات التنصير في بلاد التخلف والمجاعات والأمراض، خلاصة القول : إن الإعلام العالمي قد سخر الفنون وعلم النفس الحديث كليهما في تنفيذ مخططات ضارة أو مفيدة تتجاوز القدرة على الحصر.
ولقد أصبح من المسلمات أن " أدب الأطفال " بالذات - لأهمية وخطورة تأثيره - يستلزم الإلمام بعلم النفس، وأي ارتجال في صياغة أدب الأطفال بحيث لا يستند إلى الفهم الدقيق لنفسية الطفل وسلوكه والعوامل المختلفة المؤثرة في تربيته، أو اكتشاف قدراته العلمية والإبداعية، نقول : إن مثل هـذا الارتجال قد يؤدي إلى عواقب وخيمة تضر بشخصية الطفل ومستقبله.
الأدب الإسلامي لا يعادي علم النفس الحديث أو الطب العقلي ( النفسي ) ولكنه يتحفظ إزاء بعض شطحاته، وينكر بالضرورة ما يتعارض منه وقيم الإسلام وتصوراته، وهي نقائص في علم النفس لا نتوهمها أو ندعيها، ولكنها نقائص أقر بها الكثيرون من علماء النفس في حياة "
فرويد " وبعده، وهي لا تخرج عن كونها وجهات نظر قد تخطئ وقد تصيب، ولا ترقى إلى مستوى الحقائق العلمية المؤكدة،
[ ص: 139 ] ولذلك فلا يظنن ظان أننا ننتهك الأصول العلمية، او نفتري على النظريات الموثقة، ولنذكر دائما أن ماتم إنجازه في مجال النفس الإنسانية يعتبر حيزا ضئيلا لا يفي بالغرض المطلوب.
ودور الأديب في إثراء الرؤية النفسية لا يستطيع أن ينكره منصف، فقد سبق الأدباء والفنانون ( فرويد ) بقرون في اكتشافاتهم الملهمة في هـذا المجال الرحب، بل إن فرويد نفسه استشهد بالعديد من الشخصيات الشهيرة في التراث المسرحي القديم والتراث القصصي والملحمي، وما أمر ( أوديب ) وعقدة ( أوديب ) منا ببعيد، فلا عجب أن نتطلع إلى قيام أدبائنا باكتشافات جدية جديدة من خلال تجاربهم الفنية والخصبة، ومن خلال تكوينهم العقلي والوجداني الذي تربي في أحضان القيم العليا التي تتأبي على النقص أو التشويه أو الهوى.
ألا وإن قارئ الأدب لا ينجذب إلى الفن الرفيع ليستمتع بحيوات جديدة مدهشة مثيرة ومؤثرة فحسب، بل يبحث - في الوقت ذاته - عن نفسه.. عن مشاعره وانفعالاته، ويحاول العثور على معنى لما يفعل أو يشعر، وكثيرا ما يبحث أيضا عن مرفأ آمن يحط عليه رحاله بعد رحلة عناء.
[ ص: 140 ]