تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
أحمد الله الذي لا إله إلا هـو، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وشرع لنا من الدين ما يقينا كل ما يلحق الضرر بنفوسنا وعقولنا ومجتمعاتنا، ويحمينا من الشقوة في الدنيا والحسرة في الآخرة، وفتح باب التوبة لعباده الذين أسرفوا على أنفسهم، ليستعيدوا سكينة النفس ويستأنفوا استقامة السلوك، ويستردوا دورهم المفقود في قيادة العالم وإنقاذ الحضارة من أزمتها وتحقيق إنسانية الإنسان. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الذي كانت الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالناس،
قال تعالى:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) وبعد:
فهذا كتاب (الأمة) الخامس عشر (المخدرات من القلق إلى الاستعباد) للدكتور محمد محمود الهواري ، في سلسلة الكتب التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة
قطر ، يأتي إضافة جديدة في مجال المساهمة في تأمين الحصانة الثقافية، والوعي الحضاري، وبناء المجتمع السليم القادر على القيام بدوره في نشر الهداية وتحقيق الصلاح المطلوب لعمارة الأرض، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وتبصير
[ ص: 7 ] المسلمين بدينهم، وما يقتضي طريقهم إلى النهوض من الإعداد والاستعداد.
ومما لا شك فيه أن ظاهرة الإدمان على المخدرات والعبودية لها أصبحت جائحة تعم العالم، ولم تعد تقتصر على بلد دون آخر بعد أن زالت الحدود، وألغيت المسافات ورفعت الحواجز وأصبح العالم دولة واحدة، وعمت البلوى وأخذ كل فرد نصيبه من الوباء، وسوف لا يكون العالم الإسلامي بعيدا عن ذلك، وقد بدت نذر الخطر واضحة للعيان، إذا لم تتخذ الوسائل الناجعة على المستويات كافة، وإذا لم تستشعر المؤسسات الفاعلة والمؤثرة مسئوليتها في المواجهة كالأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات الصحية والاجتماعية ومراكز رعاية الشباب ضمن سياسة واحدة، يأخذ كل منها بطرف، فلقد آن الأوان لإزالة التناقض والقضاء على أسباب الصراع في المؤسسات الثقافية والتربوية الذي لم يورثنا إلا الشخصية المهزوزة والمشوهة القلقة، التي تعاني الفراغ والقنوط وتفتش عن إكسير السعادة في أوعية الآخرين يقول الشاعر:
متى يبلغ البيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
والأمر المحزن حقا أن الكثيرين في العالم الإسلامي لا يزالون يعيشون على وهم العافية، وهم يقرأون الإحصائيات التي تصدرها دول الحضارة الغربية عن الجريمة والتفكك الأسري، وضحايا المخدرات والمسكرات، ويعقدون الأماني والأحلام على سقوط هـذه الحضارة لصالح المسلمين، دون أن يكلفوا أنفسهم أي جهد أو إعداد لما يقتضيه ميراث الحضارة وبناء
[ ص: 8 ]
الصلاح المطلوب، ولا يدرون أن الإصابات بدأت تحل بدارهم، وأن الانتظار ووهم العافية ليس صحيحا وليس في مصلحتهم، ومن الخطورة بمكان الظن بأن المعالجة يمكن أن تكون في التستر على الجريمة أو بالاقتصار على تشريع العقوبة الشديدة فقط، دون التفتيش عن الأسباب التي عندها تكون المعالجة الحقيقية، ذلك أن الاقتصار على معالجة وترميم الآثار يعني الرؤية العاجزة والوسيلة البدائية القاصرة.
لقد أكد تقرير حديث صدر في باريس عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أويسد) التي تضم أربعا وعشرين دولة صناعية متقدمة أن أقطار ما يدعى بالعالم الثالث – ومعظم دول العالم الإسلامي واقعة في نطاقه – بلغت فيها المخدرات حد الوباء الواسع الانتشار، وأن بعض هـذه الأقطار صار لديها معدلات للمدمنين بالقياس لعدد سكانها يفوق المعدل في الولايات المتحدة، ففي (ماليزيا) وهي بلد إسلامي يقدر عدد المدمنين على المخدرات واحدا من كل 170 شخصا في حين يبلغ المعدل في الولايات المتحدة واحدا لكل 460 شخصا: وفي هـذا ما فيه من الأدلة على ما فعله دعاة التغريب – والتشريق – والعمالة الثقافية من تخريب في عالم المسلمين، أولئك الذين استطاعوا أن ينقلوا إلينا أمراض الحضارة، ولم يقدروا على التحقق بإنتاجها، وعلى الرغم من ذلك فبإمكاننا القول: بأن الخصوصية التي تتمتع بها الأسرة المسلمة لا تزال تجعلها بمنأى عن الإصابات التي لحقت بالأسرة في ديار الحضارة المادية وجعلتها محلا للمسكرات والمخدرات، كما لا تزال مساحة الضحايا في العالم الإسلامي بمجموعه بسيطة بسبب ما شرعه
[ ص: 9 ]
الإسلام من تدابير وقائية وعلاجية في الوقت نفسه، إلا أن الركون إلى ذلك دون أن نفسح المجال للتربية الإسلامية لتكون هـي الأساس والمنطلق في مؤسساتنا التربوية ينذر باجتياح الخطر القادم من الغرب بعد أن أصبح العالم دولة واحدة، ولا بد أن ندرك أن المعاصي يستدعي بعضها بعضا، وأن التساهل في مكافحة بعضها هـو أول الوهن، فالميسر وما يبعثه من قلق وإرهاق يستدعي الخمر توهما للراحة، والخمر والمعاصي والآثام الاجتماعية تستدعي المخدرات وهكذا!
إن الانحراف والشذوذ، والسآمة والاكتئاب، والضياع والضجر، والعدمية والعبث وكل ما قذفت به المذاهب الوجودية وسائر مذاهب الهدم الشباب من مخدرات فكرية كانت المسوغ وكانت المعابر الحقيقية للسقوط في المخدرات والمسكرات، التي يأتي السقوط فيها ثمرة للفراغ، وللطاقات الشبابية الفائضة، التي لم نحسن استثمارها. ولا خيار أمامنا ونحن في مواجهة المشكلة من التفكير بإيجاد المحاضن التربوية الطاهرة النظيفة من الروابط والنوادي الرياضية والثقافية، ومراكز رعاية الشباب، وجمعيات البر والخدمات العامة، والذهاب بالشباب إلى أماكن الكوارث والنكبات لممارسة أعمال الإغاثة وتنمية فكرة الاحتساب، والانغماس في القضايا الوطنية والتنموية وإيقاظ الحس بالمسئولية، الذي يتطلب الإعداد النفسي والثقافي، واستشعار ضرورة وفرضية الدعوة الإسلامية وفسح المجال أمام الشباب، لينخرطوا بالمؤسسات الإسلامية الشعبية، وإعادة دور المسجد، وإحياء رسالته وعدم الخوف والتخويف من العمل الإسلامي
[ ص: 10 ]
وإنما التخويف من عقابيل محاصرة الدعوة، ومطاردة الدعاة، وتفريغ الجماهير من عقيدتها، وتركها فريسة للفراغ الذي لا بد أن تملأه المخدرات، ذلك أن محاصرة الدعوة إلى الله سوف يفقد الناس التقوى (المناعة) ، ويؤدي إلى التفلت والسقوط في المخدرات والمسكرات وقد يؤدي ببعضهم إلى الغلو والتطرف وتغليب مسالك الحرج والتشدد على خلق اليسر والتسامح الذي شرعه الدين وفي الأمر ما فيه من المخاطر.
كما أنه لا بد من إعادة النظر بالمناهج التربوية والثقافية والإعلامية بوجه عام، وتطوير مناهج مادة التربية الإسلامية بشكل خاص، حتى تستطيع أن تؤدي دورها المطلوب في الوقاية والعلاج، وبذلك تكون قادرة على طرح ومناقشة المشكلات المعاصرة، التي يعاني منها المجتمع اليوم، ذلك أن الكثير من الكتب والمناهج، إنما روعي فيها أثناء وضعها المشكلات التي كانت في الزمن الماضي، ولم يبق لها اليوم إلا القيمة التاريخية وإذا كانت مناهج التربية والثقافة والإعلام تساهم بالوقاية في الدرجة الأولى – والوقاية خير من العلاج – فإن أولى وسائل المعالجة تكون في مواجهة فسق المترفين لأن الترف في غالب الأحيان مصاحب للنفوذ في كثير من بلاد الدنيا، ولا تحل مشكلة فسق المترفين، الذين يزرعون بذور التدمير لعالمنا الإسلامي، ويستوردون أمراض الحضارة، إلا بالعزمة الصادقة على المواجهة من الناحية الرسمية والجماهيرية.
وقد تكون المشكلة أن كثيرا من سلطات الأمن المعنية بمكافحة التهرب شريكة في شبكاته، وبعضها الآخر قد يصادر المهربات ويطارد المهربين
[ ص: 11 ]
ليحل محلهم، ويأخذ دورهم بعد أن أصبحت المخدرات وسيلة مغرية للثراء العالمي.
وبعد:
فلقد جاء هـذا الكتاب الذي نقدمه اليوم، في وقته المناسب حيث أصبحت الحاجة ماسة لمعرفة الآثار الخطيرة التي تخلفها المخدرات في النفس والعقل والنسل والمجتمع، وبعد أن أصبح تناول المخدرات جائحة عامة، لعله يساهم بإيقاف الداء الذي بدأ ينتشر نحو عالمنا الإسلامي، مستغلا فقر الفقراء وفسق المترفين. خاصة وأن المؤلف الأستاذ الدكتور الهواري يمتاز بأنه يجمع بين التخصص العلمي الدقيق، والمشاهدة الميدانية لضحايا المخدرات في المجتمع الغربي.
لذلك لم يقتصر على رصد آثار المخدرات في النفس والمجتمع وبيان أسباب تعاطيها، وإنما أضاف إلى ذلك دراسة مستقصية متخصصة للمخدرات وتركيبها وأوصافها والمظاهر السلوكية التي تترافق معها والأمراض التي تلازم أصحابها مما يوسع دائرة الإفادة ويجعل الكتاب في حاجة المتخصصين والتربويين ودعاة الإصلاح الاجتماعي، وعلماء النفس، والسلطات المعينة بمكافحة التهريب، إلى جانب ما يمنحه من ثقافة ضرورية للفرد المسلم بشكل عام. والله نسأل أن يجزل ثوابه للمؤلف ونحمده على نعمة الإسلام الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وحفظ علينا حياتنا، وكان أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وندعوه أن يجنبنا الزلل ويهدينا سواء السبيل.
[ ص: 12 ]