كتابة الحديث بين النهي عنها الإذن بها لم يكتب الحديث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما كتب القرآن الكريم، ولم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه كتبة يكتبون الحديث. ويرى
الأستاذ الدكتور صبحي الصالح -رحمه الله- أن ذلك يرجع إلى ندرة الوسائل الكتابية، وإلى ضعف البواعث النفسية عند أكثرهم على كتابة السنة
>[1] . ولست مع هـذا الرأي، لأن ندرة الوسائل لا تقف أمام عمل على درجة كبيرة من
[ ص: 39 ] الأهمية ككتابة الحديث . ومما لا ريب فيه أن البواعث النفسية الداعية إلى كتابة السنة وحفظها قوية، لا سيما وأن الصحابة يعلمون مكانة السنة من الدين.
وقد ثبت أن امتناع الصحابة - رضي الله عنهم - عن الكتابة إنما جاء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء غير القرآن، وذلك فيما رواه
أبو سعيد الخدري ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ) >[2] . ثم جاء الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم
لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - بالكتابة، فقد جاء عنه
( قوله: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش ، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه، فقال: اكتب؛ فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ) >[3]
ويمكن التوفيق بين النصين، سيرا على طريقة العلماء في اعتبار الإذن بالكتابة هـو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم بأن يقال:
1- لقد شاء الله تعالى أن يحفظ كتابه الكريم من التحريف والاختلاف، فصانه من كل شيء يكتب إلى جانبه، حتى ولو كانت السنة،
[ ص: 40 ] التي هـي وحي يوحى، وهذا من الشواهد على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أنه ميز كتاب الله عن سنته، كي يبقى الكتاب معجزة الإسلام الكبرى. ولولا ذلك لكثرت الشروح والتعليقات على آيات القرآن الكريم، ثم اختلط الأمر على الكاتبين، فلا يستطيعون تمييز النص المتعبد بتلاوته عن سائر النصوص. وهذا ما حدث لرسالات الأنبياء قبل
محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختلطت الحقيقة بالخيال، والخطأ بالصواب، والوحي بالرؤى والأحلام، حتى ذهب الأصل واختفى تحت وطأة الزيادات والإضافات، فلم يعد للوحي تميزه وهيمنته، وأصبح الوحي عند
اليهود والنصارى : حركة التاريخ، بمعنى أن كل شيء يحدث في التاريخ يضاف إلى الوحي، باعتباره إرادة الله وحركة ذلك في الأحداث، وما القراءات الشاذة -عندنا- إلا إضافات تفسيرية كتبت إلى جانب الآيات، ثم ظن الكاتب أنها من القرآن الكريم، ولكن الكثرة الكاثرة من الصحابة الذين أفردوا النص ولم يكتبوا شيئا إلى جانبه، بالإضافة إلى الذين حفظوه كل هـؤلاء تواترت الرواية القرآنية عنهم، وحكموا على الزيادة بالشذوذ وعدم القبول.
وإننا نستطيع القول: إن تواتر القرآن الكريم كان بتوفيق الله وحفظه، ثم بالمنهج الذي صانه، ولولا هـذا النهي عن كتابة الحديث لتعددت الروايات والألفاظ، ولما حصل هـذا التواتر ، وصدق الله العظيم:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر: 9].
وقد عقب
الإمام الخطابي على حديث النهي بقوله: وقد قيل إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لئلا يختلط به، ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون الكتاب نفسه محظورا وتقييد العلم
[ ص: 41 ] بالخط منهيا عنه، فلا
>[4] . وقد جاء هـذا القول بعد أن قال: يشبه أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين الإباحة
>[5]
2- كان الإذن منه صلى الله عليه وسلم بالكتابة بعد السنة السابعة، لأن
عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - هـاجر مع أبيه بعد الحديبية ، ويظهر من النص أن عبد الله أفرد كتابة الحديث في كتاب ولم يجعله مع القرآن.
3- لما كانت السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نامية، باعتبار توالي صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاف إليه أن هـذه السنة قد تتناول أحكاما مرحلية يعتريها النسخ، فقد كان النهي عن كتابتها له فوائده المنهجية حتى لا يأخذ المكتوب طابع النهائية، ولو أطلق العنان للصحابة من أول الأمر للكتابة لوصلتنا نسخ عديدة فيها الاختلاف، وكل يجزم بصحة نسخته.
لذلك كانت السياسة العامة النهي عن كتابة السنة ، فيما عدا الإذن الخاص أو في مسائل محددة ذات أنصبة وفروض وأرقام، يصعب ضبطها من غير كتاب. وهذا المحذور يزول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأن السنة قد توقف صدور المزيد منها، إلى جانب ثبات أحكامها، ووصولها إلى المرحلة النهائية، وكتابة الكتب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا تأخذ طابع القول الذي تأخذه لو كتبت في عهده صلى الله عليه وسلم بل يبقى الأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم موضع اجتهاد وحوار.. وقد يخطئ بعض الصحابة بعضهم، ويدعي أحدهم نسخ حديث يعتبره غيره محكما غير منسوخ.
[ ص: 42 ]
4- لو قدر للسنة أن تجمع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهرت هـذه النزعة النقدية المنهجية التي مدت آثارها إلى مختلف جوانب المعرفة الإسلامية، والتي كانت ميدان تنافس بين العلماء، وستبقى كذلك إلى يوم القيامة، بإذن الله تعالى.
5- إن كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أمر يشغل المسلمين بنصية السنة أكثر مما يشغلهم بالصحبة والممارسة والاقتباس المباشر، وهذا الثاني ما يميز جيل الصحابة - رضي الله عنهم - عن كل جيل بعدهم، إذ أنهم تعاملوا مع ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخصه.
ونخلص من هـذا إلى أن النهي عن كتابة السنة كان نهيا نصيا منهجيا، والإذن بكتابتها كان محدودا في الأشخاص المعينين، وفي الموضوعات التي تحتاج إلى تذكر، وللطراء الذين يرجعون لأقوامهم ويريدون شيئا مكتوبا، إما لإتقانه وتذكره، وإما زيادة في التوثيق والتصديق، فقد أخرج
البخاري في صحيحه، من رواية
أبي هـريرة ،
( أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب، فقال: إن الله حبس عن مكة القتل -أو الفيل شك أبو عبد الله- وسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هـذه حرام: لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد. فمن قتل فهو بخير النظرين: إما أن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل. فجاء رجل من أهل اليمن ، فقال: اكتب لي يا رسول الله، [ ص: 43 ] فقال: اكتبوا لأبي فلان فقال رجل من قريش : إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر،فقيل لأبي عبد الله: أي شيء كتب له؟ قال: كتب له هـذه الخطبة ) >[6]
فلا يفهم من هـذا الحديث الإذن العام، وإنما يفهم منه الإذن الخاص لمن احتاج إلى الكتابة، وأما حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص ففيه أمران: الإذن بالكتابة والرد على قولهم: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضا والغضب" فرد النبي صلى الله عليه وسلم على قولهم هـذا
( بقوله: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق ) وهذا الموضع من الحديث أبلغ في الاعتبار، وأهم من الإذن بالكتابة، فيكون إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على قول من ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسائر البشر قد يخرجه الغضب عن الحق والصواب، فيكون سياق الحديث في معرض الإنكار على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب، وقد يحمله هـذا على الخطأ.
[ ص: 44 ]