نقد المتن في زمن الصحابة
رأينا فيما سبق بواكير نقد السند في زمن الصحابة، حيث كان الصحابي يتثبت من إسناد الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ظهر إلى جانب هـذا نقد أوسع وهو نقد المتن ، ومناقشة الصحابي فيما روى من الموضوعات.
[ ص: 53 ] وكان الدافع إلى هـذا النقد المعارضة النقلية. أو المعارضة العقلية، أو المعارضة لمبادئ الإسلام ومنطقه ومناهجه. وقد تجتمع أنواع المعارضة في مثال واحد.
مثال
ومن الأمثلة التي تجمعت فيها أنواع المعارضة ما يلي:
أخرج
الإمام البخاري في صحيحه ( عن
ابن أبي مليكة ،
( قال: توفيت ابنة عثمان - رضي الله عنه - بمكة ، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وإني لجالس بينهما، أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان : ألا تنهى عن البكاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - قد كان عمر - رضي الله عنه - يقول بعض ذلك، ثم حدث قال: صدرت مع عمر - رضي الله عنه - من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هـو بركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هـؤلاء الركب، قال: فنظرت فإذا صهيب ، فأخبرته فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق بأمير المؤمنين، فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه، فقال عمر: يا صهيب أتبكي علي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه؟
قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة - رضي الله عنها - فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر [ ص: 54 ] عذابا ببكاء أهله عليه. وقالت: حسبكم القرآن ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - عند ذلك: والله ( هو أضحك وأبكى ) ) >[1]
وأخرج
الإمام مسلم من رواية
عروة ابن الزبير ،
( قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فقالت: وهل ابن عمر (أي غلط ونسي) إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن". وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى من المشركين، فقال لهم ما قال: (إنهم يسمعون ما أقول) . وقد وهل إنما قال: (إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم الحق) . ثم قرأت:
( إنك لا تسمع الموتى * وما أنت بمسمع من في القبور ) ) >[2]
وهكذا ناقشت عائشة رضي الله عنها روايات
عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - بأدلة نقلية من الآيات والأحاديث والمبادئ الإسلامية العامة. وهذا المقال نوع من نقد المتن الذي لم يغفل عنه الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -.
ولكن جمهور المحدثين يرون صحة ما روى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الباب بقوله: [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) إذا كان النوح من سنته]، فيكون البخاري حمل البكاء على ما إذا كان من عادة الميت قبل موته
[ ص: 55 ] أن يسمع النواح من أهله فلا يمنعهم ولا ينهاهم، ويرضى بذلك منهم، أو إذا أوصى بالبكاء عليه بعد موته. والحديث الذي يروى عن
عمر - رضي الله عنه - لا يقدح فيه نقد
عائشة - رضي الله عنها - ويحمل على مثل هـذا التوجيه.
وعلى كل فقد وقفنا على صورة من صور الحوار النقدي الجاد بين الصحابة - رضي الله عنهم - وهذه الصورة تكشف لنا عن منهجهم في عدم التسليم لبعضهم فيما يروون، إذا كان ما يروى يعارض النقل أو العقل ولا يعني هـذا قبول النقد أو صواب الناقد، بل قد يقبل، أو يرد أو يؤخذ منه، ويترك.