شروط قبول الخبر :
ذكر
الإمام الشافعي الشرط الأول فقال:
(أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه) . وهذا هـو العدل المتصف بالعدالة. والعدالة جماع صفات تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والورع، وهذه الصفات بعضها فطري خلقي، وبعضها كسبي. والعدل هـو المسلم العاقل البالغ السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة. وهذه هـي الشخصية التي جاء القرآن لصياغتها، وقدمت السنة أنموذجها الكامل في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أشخاص الصحابة - رضي الله عنهم - ثم التابعين وأتباع التابعين، فلقد كان عند هـذه الأمة دون سائر الأمم التصور النظري والأنموذج العملي للشخصية الإسلامية. وفيما يلي تفصيل لهذه الصفات التي ينبغي توافرها في راوي الحديث:
1- الإسلام: وهو الشرط الأول من شروط العدالة. وغير المسلم ليس عدلا؛ لأن الروايات تتعلق بالدين، ولذلك قال
ابن سيرين : إن هـذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم . وغير المسلم لا يكون مأمونا على الدين؛ لما في اختلاف الدين من دواعي التحامل وترك الإنصاف. فإذا أسلم الكافر زال هـذا المانع وجاز له أن يحدث بما كان سمعه وقت كفره.
[ ص: 84 ] وقد حدث الصحابة بأحاديث كانوا قد سمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامهم.
2- العقل: والعقل في اللغة: هـو المنع، وسمي عقلا؛ لأنه قوة تعقل تصرفات الإنسان وتمنعه من فعل القبيح. والعقل مصدر التمييز والإدراك والضبط. ويشترط في الراوي أن يكون عاقلا لما يسمع ولما يحدث به، وبداية العقل التمييز الذي يبدأ مع الطفل ويمكنه من التفريق بين الصدق والكذب وبين حيوان وحيوان، وبين شيء وشيء. ثم يتكامل العقل خلال فترة البلوغ والشباب والكهولة، ويبدأ بالتناقص في فترة الشيخوخة والهرم. وقد يصل إلى انعدام التمييز في مرحلة الهرم. ويمكن للراوي أن يتحمل الحديث وهو طفل مميز، ولكنه لا يؤديه ولا يؤخذ عنه إلا بعد البلوغ. وقد ترجم
البخاري لباب في كتابه قال فيه: (باب متى يصح سماع الصغير؟) . وروى حديثا بسنده إلى الصحابي الجليل
( محمود بن الربيع ، قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو ) >[1] . فقول محمود بن الربيع: (عقلت وأنا ابن خمس سنين) يفيد أنه كان مميزا في تلك السن.
وأما إذا اختل التمييز في حال الشيخوخة فهذا يؤدي على الاختلاط الذي هـو حالة من الاضطراب في الأقوال، والاختلال في الإتقان، والنسيان الفاحش، وعندئذ لا يعود الثقة أهلا للرواية عنه، ولا للأخذ منه. وكما يختل العقل بنقص التمييز، كذلك فإنه يختل بالجنون ويختل بالغفلة، والغفلة بلادة في الذهن، وقبول للأمور من غير تمحيص، والمغفل لا يميز الصحيح من
[ ص: 85 ] السقيم، ومن باب الغفلة يدخل عليه الكذب والغرائب. قال
ابن عباس : " لا يكتب عن الشيخ المغفل "
>[2] . وقبول التلقين دليل على نقص العقل، والتلقين أن يقبل الراوي نوعا من الإيحاء بأن حديثا ما من روايته وليس كذلك في الحقيقة. قال
الحميدي -رحمه الله-: (ومن قبل التلقين ترك حديثه)
>[3]
3- البلوغ: صفة جسمية يترتب عليها ابتداء التكليف الشرعي بالأحكام، وهو سن المسئولية والثواب والعقاب، والبلوغ شرط من شروط توافر العدالة في الراوي، لما يتضمن من مسئولية؛ فغير البالغ معفى من المسئولية الأخروية وبعض أنواع المسئولية الدنيوية. ومن هـنا كانت روايته للحديث موضع شبهة؛ فقد يكذب وإن كان ظاهره التقوى والصلاح، وحياطة للدين وصيانة للحديث من العبث ودفعا لأدنى الاحتمالات اشترط البلوغ. وأما إذا سمع الراوي شيئا ما قبل بلوغه فهل يحتفظ به حتى يبلغ الحلم؟ الجواب على ذلك أن الراوي لا يؤدي الحديث إلا بعد البلوغ، مع جواز تحمل الحديث قبل البلوغ ما دام مميزا.
4- السلامة من أسباب الفسق: والفسق هـو الخروج عن أحكام الله تعالى بارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر، فالكذب وترك الصلاة والربا والزنا من الكبائر، وترك السنن والدوام على ذلك وإدامة النظر إلى المحارم من الصغائر المفسقة للإصرار عليها. ومن ارتكب
[ ص: 86 ] مفسقا من هـذه المفسقات لا يكون أهلا لرواية الحديث، ولا يحكم له بالعدالة حتى يتوب ويقلع عن ذلك المفسق ويثبت له التعديل؛ وعندئذ يقبل حديثه، واستثنى العلماء من ذلك التائب من الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ردوا روايته حتى ولو تاب، وذلك لعظم جنايته، ودفعا لكل شبهة واحتمال.
5- السلامة من خوارم المروءة: والخوارم جمع خارمة، والخارمة ما تثقب الثوب وتعيبه. والمروءة : الكرامة والشخصية والاعتبار، وعليه فخوارم المروءة هـي تلك القوادح التي تشين الشخص، وتكون سببا في احتقاره وعدم اعتباره. وغالبا ما تكون هـذه الخوارم خروجا على عرف عام أو عادة أقرها المجتمع، ولا بد أن تكون هـذه الأعراف والعادات منطبقة مع الشرع مؤيدة منه، حتى تكون معتبرة، وقد تتبدل هـذه الخوارم مع تبدل الأعراف وتغيرها.
ومن أمثلة هـذه الخوارم: كثرة المزاح والضحك، فإن شخصية المحدث لا بد أن تكون على درجة من الوقار والهيبة، والمزاح والضحك يسقطان الهيبة إذا كثرا، قال
أبو داود : "أبو عاصم يحفظ قدر ألف حديث من جيد حديثه، وكان فيه مزاح، وكان ابن داود يميل إليه، فلما بلغه مزاحه كان لا يعبأ به
>[4]
ولا يكفي أن يكون الراوي عدلا في دينه حتى يقبل حديثه، بل لا بد أن يكون ضابطا لحديثه متقنا له، متثبتا في روايته، فقد يكون الراوي على درجة عالية من التقوى والورع، ولكنه لا يتحرى في الرواية، بل يأخذ
[ ص: 87 ] عن كل أحد، ويحسن الظن بكل من حدثه حديثا، ومن كانت هـذه حاله وصف بأنه تعتريه غفلة الصالحين، وهذا الذي يجعل بعض الصالحين يكذبون وهم لا يشعرون؛ لأنهم يحملون عن الكذابين والضعفاء دون أن يتبينوا فيروجون أخبارهم. قال
ابن أبي الزناد : أدركت
بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث. يقال: ليس من أهله
>[5] وهكذا ميز علماؤنا بين الصلاح والورع، وبين الدقة والضبط في الرواية، حتى بلغ من جرأة
يحيى بن سعيد القطان ، الإمام الناقد، أن يقول: (لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث)
>[6] . قال
مسلم : يقول: (يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب)
>[7] . وروى مسلم بإسناده إلى
أيوب أنه قال: (إن لي جارا - ثم ذكر من فضله - ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة)
>[8] . وروى
عمرو الناقد : سمعت
وكيعا يقول - وذكر له حديث يرويه وهب بن إسماعيل - فقال: (ذاك رجل صالح وللحديث رجال)
>[9] وقد يهجم هـؤلاء على الرواية دون حذر؛ لما كان عليه المسلمون من رغبة ملحة في الرواية وتناقل الحديث، حتى وصل شغفهم في ذلك إلى حد الفتنة عند بعضهم. قال
ابن مهدي : (فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد، لا تشبه فتنته فتنة، كم من رجل يظن به الخير قد حملته فتنة
[ ص: 88 ] الحديث على الكذب)
>[10] يقول
ابن رجب : (يشير إلى أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ، فإنما حمله على ذلك حب الحديث، والتشبه بالحفاظ، فوقع في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعلم، ولو تورع واتقى الله لكف عن ذلك فسلم)
>[11]
وهذا معنى قول
الشافعي - رحمه الله -: (عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى - لأنه إذا حدث به على المعنى، وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته للحديث - حافظا إن حدث من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم) .
وهكذا فإنه لا يحكم للراوي بالضبط إلا إذا اجتمعت فيه أمور:
أولا: أن يكون حافظا إن حدث من حفظه،
ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه. فمن كان حافظا حفظ صدر، فلا بد أن يتقن روايته بأن يأتي بالأحاديث التي يحفظها بحروفها ولا يرويها بالمعنى، إلا إذا كان بصيرا باللغة عارفا بما يحيل اللفظ عن معناه؛ حتى لا يبدل كلمة بكلمة فيغير المعنى الأصلي.
ومن الحفاظ الكبار
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ،
وأبو إسحاق السبيعي ،
والأعمش ،
وقتادة . وهؤلاء كانوا على درجة عالية من الضبط وأداء الحديث على حروفه كما سمعوه، فهذا الزهري (سأله
[ ص: 89 ] هـشام بن عبد الملك أن يملي على بعض ولده أربعمائة حديث، وخرج
الزهري فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟ فحدثهم بتلك الأربعمائة، ثم لقي هـشاما بعد شهر أو نحوه فقال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع. فدعا بكاتب فأملاها عليه، ثم قابل بالكتاب الأول، فما غادر حرفا واحدا)
>[12] وروي عن الزهري أنه قال: (ما استعدت حديثا قط، وما شككت في حديث إلا حديثا واحدا فسألت صاحبي فإذا هـو كما حفظت)
>[13]
وكذلك
قتادة بن دعامة (ت118هـ) فقد كان أحفظ أهل
البصرة ، وكان رأسا في العربية واللغة وأيام العرب. قال
معمر : (أقام قتادة عند
سعيد بن المسيب ثمانية أيام فقال له في اليوم الثالث: ارتحل يا أعمى فقد انزفتني. قال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعد علي، وما سمعت أذناي قط شيئا إلا وعاه قلبي. وقال
بن سيرين قتادة أحفظ الناس)
>[14]
وأما
عمرو بن دينار المكي عالم الحرم، فقد كان مع حفظه يحدث على المعنى، وكان
ابن عيينة يقول: (ما كان عندنا أحد أفقه ولا أعلم ولا أحفظ من عمرو بن دينار)
>[15]
وأما الضبط للكتاب فإن يعتني المحدث بكتابه؛ باتباع قواعد الكتابة الحديثية الشكلية باستخدام الوسائل الكتابية المناسبة، وألا يكون الخط دقيقا تصعب قراءته، وأن يراعي طرائق التصويب والإصلاح.
[ ص: 90 ] وهنالك قواعد كتابية كثيرة اشترط المحدثون المحافظة عليها لكي يعتبر الكتاب ويقبل.
وأما القواعد الموضوعية فأهمها عرض الكتاب بعد كتابته على الشيخ بقراءته عليه، أو مقابلته على أصل مقروء على الشيخ، فقد أخرج
الخطيب بسنده إلى
هـشام بن عروة " قال: قال لي أبي: أكتبت؟ قال: قلت: نعم. قال: عارضت؟ قلت: لا. قال: فلم تكتب؟ "
>[16] فقد تنبه علماؤنا إلى أن الكاتب قد يسهو، وقد يغير الكلام وهو لا يشعر، وقد يسقط عليه شيء من الكلام، فكان العرض على الأصل ضروريا ليصبح الكتاب مقبولا معتمدا عند المحدثين، وللعرض قواعد وإجراءات كثيرة، وإذا ظهرت علامات الإصلاح والتصويب والضرب على الكتاب فهذه أدلة صحته. قال
أبو نعيم : إذا رأيت كتاب صاحب الحديث مسحجا - يعني كثير التغيير - فأقرب به من الصحة .
ولا بد أن يكون المحدث حريصا على كتابه لا يدفعه إلا إلى ثقة حتى لا يزاد في الكتاب، ولقد حذر النقاد من تحريف الكتب والإضافة عليها من ولد فاسق أو كاتب زنديق أو جار سوء.
فإذا راعى المحدث شرائط الكتابة وآدابها وقواعدها الشكلية والموضوعية فإنه يعرف عندئذ بصحة كتابه، فإذا حدث من كتابه اطمأن الناس إلى روايته، وكان متقنا ضابطا لكتابه.
[ ص: 91 ]