الحقوق الجماعية المفروضة على الملكية الفردية يمكن أن نجمل هـذه الحقوق فيما يلي: 1- الزكاة وهي الالتزام المالي الذي يجب على المسلم أن يؤديه في مصارفه الشرعية، وهي قدر معلوم محدد ومفصل في كتب الفقهاء، وهي فريضة إلزامية يجب على كل مالك أن يدفعها لأربابها من المستحقين، الذين ذكرهم الله في كتابه الكريم.
[ ص: 88 ] وتعتبر الزكاة فريضة يتعبد بأدائها، وهي فريضة اجتماعية يجب على المسلم أن يقوم بها نحو مجتمعه، وهي طهارة للنفس لتخليصها من أدران الشح والبخل والأنانية، كما هـي طهارة للمال ليكون بعد ذلك حلالا لصاحبه بعد أن يدفع حق الفقراء منه.
إن أهم أهداف التنمية الاقتصادية الإسلامية هـو أن تكون زيادة الإنتاج مقترنة بعدالة التوزيع، وأن تقارب مستويات المعيشة بين الناس، فقليل من المال مع حسن التوزيع أفضل من كثرته مع سوء التوزيع، والزكاة هـي حق الجماعة المفروض على الأملاك الخاصة النامية، أو التي فيها قابلية النمو؛ لأن الإسلام يكره الفقر، ويحاول أن يمحوه من المجتمع، وأن يقرب بين الناس في مستويات المعيشة، ويحقق حد الكفاية لكي لا تكون الأموال مكدسة لدى فئة دون فئة، قال تعالى:
( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) [الحشر:7].
وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرب بين
المهاجرين والأنصار في المستويات المعيشية، فوزع فيء
بني النضير على المهاجرين وثلاثة من الأنصار فقط، حتى تتحقق المساواة، وحتى لا تكون الأموال في طرف دون طرف
>[1] [ ص: 89 ] 2- التكافل الاجتماعي والحق الثاني من الحقوق الجماعية المفروضة على الملكية الفردية هـو التكافل الاجتماعي في مفهومه المادي والمعنوي. والتكافل الاجتماعي في الإسلام لا يقتصر على المفهوم المادي فحسب، بل هـو شامل لجميع نواحي الحياة المادية والمعنوية. قال تعالى:
( إنما المؤمنون إخوة ) [الحجرات:10]. والإخاء بين أفراد المجتمع يوجب التكافل بينهم، لا في الطعام والشراب فحسب، بل في كل أمر من أمور الحياة، فالأخ يحرص على حرية أخيه وكرامته وحياته، كما يحرص على حاجاته المعيشية.
( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) >[2] ويعتبر المالكون مسئولين عن تحقيق التكافل بين الناس بإعطاء الفقراء والمساكين، وإسعاف المرضى، والمقعدين، ومساعدة اللقطاء والمشردين، ممن لا يكفيهم أموال الزكاة، قال
أبو عبيد القاسم بن سلام : " إن في المال حقوقا سوى الزكاة؛ مثل بر الوالدين وصلة الرحم وقرى الضيف
>[3] [ ص: 90 ] وقال
ابن جرير : " وسأل المؤمنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ماذا ينفقون؟ فنزلت:
( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) [البقرة:215]. قال: فتلك التطوع، والزكاة سوى ذلك
>[4] وقد اتفق الفقهاء جميعا على وجوب نفقة المعسر على قريبه الموسر، وإن اختلفوا في مدى شمول هـذا الوجوب لدرجات القرابة، فمنهم من وسع هـذا الحق، ومنهم من ضيقه ضمن دائرة محدودة. ويلاحظ أن
الإمام مالكا يميل إلى تضييق دائرة النفقة للأقرباء ويقصرها على الوالدين والأبناء دون باقي الأصول والفروع. بينما يرى
الإمام أحمد أن النفقة الواجبة تشمل الأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا، وللوارثين والأقرباء؛ لأن سبب النفقة هـي القرابة التي توجب للموسر حقا في الإرث من قريبه المعسر إذا ترك مالا
>[5] بينما ذهب
الإمام ابن حزم إلى أكثر من ذلك؛ حيث رأى أنه يجب على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بكفاية فقرائهم إذا لم تكف الزكاة لذلك. وقال في كتابه المحلى: " وفرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم ولا
[ ص: 91 ] في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يقيهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة
>[6]
وهذا الرأي ذو أهمية كبيرة، إذ يعطي ولي الأمر الحق في أن يأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء دون تحديد، فإذا كانت التنمية تستهدف أول ما تستهدف القضاء على الفقر، فإن هـذا الرأي يعني أن الإسلام لا يعترف بالملكية الفردية والحقوق الخاصة الأخرى، إلا بعد أن يأخذ الفقراء ما يكفيهم ويرفع عنهم شر الحاجة. 3- خمس الغنائم الغنائم هـي الأموال التي يغتنمها المسلمون في الحرب، وتختلف عن الفيء - وهو الأموال التي تعود إلى المسلمين بدون حرب - ويختلف حكم الغنائم عن حكم الفيء
>[7] ؛ لأن الفيء يوزع على المسلمين، في حين تخمس الغنيمة، فيعطى الفاتحون الذين حاربوا وجاهدوا وحققوا النصر أربعة أخماسها، ويبقى الخمس حقا للذين ذكرهم الله في الآية الكريمة:
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) [الأنفال:41].
ويعتبر هـذا الخمس حقا ماليا مفروضا في الغنائم يوزع على مصالح المسلمين المذكورة في الآية السابقة، وقد قال
أبو حنيفة بأن هـذا
[ ص: 92 ] الخمس يقسم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ثلاثة أصناف: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل؛ لأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم قرابته قد ارتفعا بموته صلى الله عليه وسلم
>[8] 4- خمس الركاز أوجب التشريع الإسلامي الخمس في الركاز المستخرج من الأرض، ويعتبر هـذا الخمس حقا ماليا مفروضا على الأموال المستخرجة من الأرض لمصلحة الفقراء والمحتاجين، وتساهم هـذه الضريبة في القضاء على الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية الإسلامية؛ لأن الأصل أن تفرض الزكاة على الأموال والأرباح، ولكن الإسلام حرص على أن يفرض الخمس في الركاز لعدم تكافؤ الجهد والثمرة، ولذلك وجب على مستخرج الركاز أن يساهم بخمس ما يحصل عليه في مصالح الأمة. منع تنمية الملكية الخاصة عن طريق الإضرار بالمجتمع يحرم التشريع الإسلامي تنمية الملكية بطريقة تسيء إلى المجتمع؛ فقد أباح الإسلام تنمية الملكية الخاصة، وحض على العمل والسعي، ولكن ضمن الطرق المباحة التي لا تتعارض مع مصالح الجماعة كالزراعة والتجارة والصناعة وغير ذلك من الطرق التي تخدم المجتمع. أما الربح عن طريقة الاستغلال لحاجة الفقراء أو خداعهم، أو إلحاق الضرر بهم، فهو مما لا يقره التشريع الإسلامي.
[ ص: 93 ] وهذه بعض الطرق المحرمة لتنمية الملكية نعرض لها بإيجاز: 1- الربا وهو الطريق البشع الذي ينمي بعض الناس أموالهم عن طريقه، وقد حرمه الإسلام تحريما قاطعا، وندد بالمتعاملين به، وتوعدهم بسوء المصير. قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) [البقرة:278، 279]، وقال تعالى:
( وأحل الله البيع وحرم الربا ) [البقرة:275]، وصحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في ذم الربا، وتحريمه، وإشراك كل من يتعامل به في تلك الجريمة. كما ورد عن
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -
( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) (رواه الخمسة)
وقد اتفق الفقهاء على أن كل ربح أو فائدة يحصل بطريق الربا فهو مال حرام، لا يبارك الله فيه؛ لأن الإسلام أمر بالعمل والسعي، وبارك في الربح الذي يحصل نتيجة لذلك لأنه ربح حلال، اكتسبه صاحبه بجهده وتعبه، ولذلك صانه وهدد من يعتدي عليه، أما الربح الذي يحصل بالربا ، فهو ربح غير مشروع لا يعترف به الإسلام
>[9]
وهدف الإسلام من تحريمه للربا هـو أنه يريد أن يجعل الملكية الفردية تنمو نموا طبيعيا لا استغلال فيه ولا احتكار ولا إضرار، في حين أن نمو
[ ص: 94 ] الملكية عن طريق تلك الوسائل المنحرفة يفرغ التنمية من أي مضمون حقيقي.
2- الاحتكار وهو الطريق غير المشروع المكروه الذي يلجأ إليه بعض الناس لتنمية ثرواتهم وزيادة أرباحهم، وهو حبس السلع عن البيع لتفقد في الأسواق فترتفع أثمانها.
منها ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في ذم الاحتكار وتشديد العقاب على فاعله. وقد روي
( عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس ) >[10]
وعن
معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال:
( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلية عليهم، كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة ) >[11]
وهكذا فإن الملكية التي تنمو عن طريق احتكار الحاجات الضرورية للناس، وإلحاق الضرر بهم هـي ملكية محرمة لا يقرها الإسلام، ولا يحميها، ولا يسمح بوجودها؛ لأنها ملكية قامت على الإضرار، ونمت من المال الحرام، واستغلت حاجة الناس، وألحقت بهم الضيق والأذى.
[ ص: 95 ]
وتحريم الإسلام لهذه الأساليب غير الأخلاقية في تنمية الثروة يجعل التنمية الإسلامية تتلافى تلك الآثار السلبية التي ارتبطت بنموذج التنمية الرأسمالية الغربي الذي لم يتردد في استعمال الربا والاحتكار والاستغلال من أجل تنمية الثروة.
والخلاصة: أن الإسلام لا يغفل في مجال التنمية الاقتصادية أن يراعي المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها حياة الجماعة. فكل عمل لا يراعى فيه الجانب الأخلاقي يعتبر باطلا وحراما، كالربح عن طريق القمار أو التعامل بالربا؛ لأن هـذا الطريق - بالرغم مما قد يحققه من أرباح للأفراد - يوهن الأخلاق، ويضعف الذمم، ويوجد بين الناس الكراهية والحقد.
[ ص: 96 ]