الفصل السادس: الضمانات الإسلامية لنجاح التنمية الاقتصادية واستمرارها
اعتبر الإسلام تعمير الكون وتنمية الإنسان ليكون بحق خليفة الله في أرضه يقوم بعبادة الله، غاية خلقه ووجوده، يقول تعالى:
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) [هود:61]، أي كلفكم بعمارتها. فلم يخلق الله الإنسان في هـذه الدنيا عبثا، أو لمجرد أن يأكل ويشرب، وإنما خلقه لرسالة يؤديها، هـي أن يكون خليفة الله في أرضه، يدرس، ويعمل، وينتج، ويعمر، عابدا لله شاكرا فضله، ليقابله في نهاية المطاف بعمله وكدحه، لقوله تعالى:
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) [الانشقاق:6]، وبذلك جعل الإسلام صحة الكدح أو فساده وذهاب أجره هـو سبيل سعادة المرء أو شقائه في الدنيا والآخرة.
ولقد بلغ حرص الإسلام على التنمية الاقتصادية وتعمير الدنيا، أن
( قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر ) (
البخاري وأحمد ) .
ومن هـنا فقد سخر الله تعالى للإنسان كل ما في السماوات والأرض، لقوله تعالى:
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) [الجاثـية:13].
[ ص: 125 ]
ودعا إلى الانتشار في الأرض، يحييها وينعم بخيراتها، ويسبح بحمده، لقوله تعالى:
( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [الجمعة:10]. وقوله تعالى:
( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ) [الأعراف10]. أي يسرنا لكم السيطرة على الأرض عن طريق تعميرها وتنميتها.
ومن هـنا فقد حرص الإسلام على توفير ضمانات أو ركائز لتحقيق هـذه التنمية واستمرارها. لعل أبرزها: تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتنمية المستقلة ، والاعتماد على الذات، واختيار الأساليب التقنية الملائمة، والمشاركة الشعبية، والارتفاع بالتنمية إلى مستوى الجهاد، والالتزام بأولويات التنمية، والمعالجة الجذرية لمعوقاتها، وجعل التنمية الاقتصادية في مرتبة العبادة.
أولا: تحقيق الاستقلال الاقتصادي
لقد أراد الإسلام أن يجعل من الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، تتولى حمل الرسالة الإسلامية، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وإذا تأملنا في واقع أمتنا الإسلامية اليوم فإننا نجدها غير الأمة التي تحدث عنها القرآن، فبدل أن تكون الأمة الإسلامية هـي القائدة أصبحت
[ ص: 126 ] تابعة بسبب فقدانها لذاتيتها واستقلالها، وتمزق وحدتها، وتبعيتها الشاملة للدول الأجنبية، ومن ثم لا يمكن أن نتحدث عن تنمية اقتصادية إسلامية ، إذا لم تحقق الدول الإسلامية استقلالها الاقتصادي، ونعني بالاستقلال الاقتصادي نفي التبعية الاقتصادية للخارج، وسيطرة دول العالم الإسلامي على مقدرات بلادهم الاقتصادية.
فعلى الرغم من حصول البلاد الإسلامية على استقلالها السياسي، وانفصالها عن النظام الاستعماري ذي الهيمنة السياسية المباشرة، إلا أنها من الناحية الواقعية بقيت في حالة تبعية اقتصادية للغرب الرأسمالي ، ونتج عن ذلك ضياع الاستقلال، وبقاء القرار الاقتصادي - ومن ثم القرار السياسي - مرهونا لدى الدول الأوروبية التي فرضت على بلادنا ما يسمى بنظام التخصص وتقسيم العمل الدولي، وبموجبه تخصصت الدول الإسلامية في إنتاج المواد الخام وتصديرها للسوق الرأسمالية، بينما تخصصت الدول الرأسمالية في إنتاج المواد المصنعة وتصديرها إلى الدول الإسلامية، والدول المستعمرة سابقا، وعلى هـذا الأساس استمرت حالة التبعية الاقتصادية للخارج، ولا يمكن أن نتصور أن الدول الإسلامية تستطيع تحقيق أي تنمية اقتصادية حقيقية إلا إذا تمكنت من تحقيق استقلالها الاقتصادي.
ثانيا: تحقيق التنمية المستقلة
ونقصد بالتنمية المستقلة تلك الجهود الواعية التي ينبغي أن تبذل من أجل بناء الهيكل الاقتصادي المتطور،
[ ص: 127 ] الذي تتكامل فيه القطاعات الاقتصادية بعضها مع بعض عند مستوى مرتفع للإنتاجية، وعلى النحو الذي يحقق استقلالها الاقتصادي ويخلصه من التبعية، وبحيث يرتفع مستوى معيشة الناس ماديا وروحيا، في إطار المحافظة على قيم وتقاليد دولنا الإسلامية.
والتنمية المستقلة بهذا المعنى ليست عملية اقتصادية بحتة، بل هـي عملية حضارية تشمل مختلف نواحي الحياة، وتمثل حلا جذريا لمشكلة التخلف، فهدفها الرئيس هـو رفاهية الإنسان، وهذا يعني أن جهودها وأهدافها واستراتيجيتها يجب أن تكون مصاغة بعناية لنفي شقاء إنسان العالم الإسلامي، أي القضاء على بطالته وفقره وجوعه وأميته، ومعاناته في أحواله السكنية والصحية، ورفع مستوى ثقافته وتمتعه بالحياة والقيم الجمالية فيها.
والتنمية المستقلة التي تبنى على أساس إسلامي، تختلف عن " التنمية التابعة المشوهة " التي عرفتها أغلب الدول الإسلامية بعد الاستقلال، والتي كان هـدفها الرئيس اللحاق بمستوى التقدم والرفاهية في البلاد الغربية، وتقليد أساليب الحياة فيها، فقد صيغت جهود التنمية وأهدافها ليس على أساس تحسين ظروف المعيشة للإنسان العادي، بل من أجل تحقيق معدلات نمو عالية للناتج الوطني، دون الاهتمام بكيفية توزيعه على السكان، فكانت النتيجة استئثار فئة قليلة من السكان بثمار تلك الجهود، وبقيت الفئة الغالبة منهم تعيش على الهامش. وقد عرفنا
[ ص: 128 ] أن التنمية الاقتصادية الإسلامية لا تعترف بتنمية الإنتاج بمعزل عن حسن توزيعه.
ويمكن تحديد الشروط الواجب توافرها حتى يمكن تحقيق التنمية المستقلة فيما يلي:
1- ترشيد الاستهلاك، وتوجيه الفائض الاقتصادي لأغراض التنمية.
ذلك أن التنمية تفترض أن يقتطع المجتمع من استهلاكه الحالي ليستثمر الفائض في زيادة طاقته الإنتاجية، وهو ما يسمى في الاصطلاح الحديث بالتراكم الرأسمالي .
والإسلام يقوم على ترشيد الاستهلاك لقوله تعالى:
( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [الفرقان:67]، كما أنه يلعن المبذرين لقوله تعالى:
( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) [الإسراء:27]. بل يعتبر كل من يسيء استخدام المال الزائد عن احتياجاته وكفايته بأنه سفيه يجب الحجر عليه، لقوله تعالى:
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [النساء:5].
فترشيد الاستهلاك، والاكتفاء بما عبر عنه الفقهاء باصطلاح " حد الكفاية " ، أي المستوى اللائق للمعيشة، وبالتالي توجيه الفائض الاقتصادي إلى التنمية، وهو في الإسلام موقف ديني وسلوك اجتماعي.
[ ص: 129 ] وهنا تبدو لنا أهمية القدوة من جانب القادة والمسئولين، من أجل إعمال هـذا المبدأ الإسلامي والالتزام به تلقائيا، وهو الموقف الذي عبر عنه الخليفة
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين حرم على نفسه عام المجاعة أن يأكل لحما، " وقال كلمته المشهورة: كيف يعنيني أمر رعيتي إذا لم يمسني ما يمسهم "
>[1]
وقد حدث أن أنكر - رضي الله عنه - على عامله
باليمن حللا مشهرة ودهونا معطرة، فلما عاد إليه في العام التالي أشعث أغبر عليه ثياب بالية قال له: لا ولا كل هـذا
>[2]
وكلنا يعلم كيف أن
عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان يعيش عيشة رفه، حتى إذا تولى الخلافة وأصبح مسئولا عاش عيشة تقشف، لا لشيء إلا ليعطي شعبه المثل والقدوة، وليعمل الجميع على ترشيد استهلاكهم والاكتفاء بما ارتضاه الإسلام لهم؛ وهو حد الكفاية ، أي المستوى اللائق للمعيشة دون سرف أو ترف.
ولا شك أن موقف الفئات الغنية من رفض ضبط الاستهلاك، لا يعتبر موقفا غير إسلامي فحسب، وإنما يتسم أيضا بدرجة كبيرة من قصر النظر يكاد يبلغ حد العمى الاجتماعي، وهم في الواقع كما ورد في القرآن الكريم يلقون بأيديهم إلى المفسدة والتهلكة.
[ ص: 130 ] ونشير إلى أن ضبط الاستهلاك يجب أن يكون عاما، فلا يقتصر على الأفراد، بل يتناول الحكومات، وإنه لمما يؤسف له حقا أن تتورط حكومات الكثير من مجتمعاتنا الإسلامية، فيما يسمى بمشروعات الهيبة أو مركبات النقص، وذلك كإقامة المباني الفخمة التي تتجاوز احتياجاتها، وكتشييد مطارات حديثة تفوق طاقاتها ومعداتها مقتضيات حركة النقل فيها.
ونؤكد أنه إذا استطاع اقتصاد البلاد الإسلامية أن يعبئ قدرا من فائضه الاقتصادي والتحكم في كيفية استخدامه، فإن هـذا يمثل عاملا مهما من عوامل تحقيق التنمية الاقتصادية الإسلامية؛ إذ يمكن استخدام هـذا الفائض بدرجات متفاوتة للإسهام في مواجهة القضايا الرئيسة التالية:
(أ) تمويل الاستثمارات اللازمة للتنمية، وتوسيع فرص التوظف، ومن ثم القضاء على البطالة .
(ب) مواجهة أعباء الديون الخارجية، وعدم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل مشاريع التنمية.
(ج) تخصيص جزء من هـذا الفائض لرفع مستوى معيشة الفئات الاجتماعية التي تعيش في الفقر المدقع.
2- الاتجاه نحو التصنيع إن التصنيع إلى جانب كونه ضرورة اقتصادية في عالمنا الإسلامي، هـو أيضا ضرورة أخلاقية، فمفهوم الأخلاق في الإسلام مفهوم واقعي، يتناول الصورة المتكاملة لحياة
[ ص: 131 ]
الإنسان التي تضم جوانب متعددة، من أهمها النظم الاجتماعية والاقتصادية التي يتبعها في حياته.
ولم تعد هـناك وسيلة تمكن الإنسان من تحقيق كرامته -في عالم تعتمد فيه القوة المعنوية على الأخذ بأسباب القوة المادية- سوى السير على طريق التصنيع.
فالافتقار إلى التصنيع في عالمنا الإسلامي يؤدي إلى إحدى نتيجتين فهو بالنسبة إلى البلاد الإسلامية الفقيرة في المواد الخام، وفي الثروة الطبيعية، يعني استمرار الحياة في مستوى للمعيشة لا يكفل للآدمي ضرورات الحياة المادية، وفي مثل هـذا المستوى من الحياة المادية، يستحيل أن نتوقع من الإنسان المسلم أي نزوع إلى السمو الأخلاقي المطلوب، لأن كل تفكيره وكل رغباته ستكون متجهة إلى إشباع الضرورات الحيوية الملحة على نحو لا يترك له أي مجال لتنمية الجوانب المعنوية فيه.
على أن هـناك بلادا إسلامية أخرى غنية بمواردها الطبيعية وهذه البلاد لا تعاني من هـبوط مستوى المعيشة، وإنما قد تعاني على العكس من ذلك من الارتفاع الزائد في مستوى المعيشة، وبالتالي فنخشى عليها من خطر الانحلال الخلقي ، الناجم عن سهولة العيش ويسر الحياة، وعدم اضطرار الإنسان إلى بذل جهد شاق من أجل كسب الرزق هـذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الأجيال الحاضرة في هـذه البلاد الغنية، تنعم
[ ص: 132 ] بمستوى للمعيشة لم يكن يطرأ حتى بخيال الأجيال السابقة، ولا يتوقع للأجيال المقبلة أن تنعم بشيء مشابه له، وهكذا يؤدي التصنيع في هـذه البلاد وظيفتين مزدوجتين: فهو دواء للترف الزائد ولمختلف أنواع الانحرافات الناجمة عن اكتساب الثروة الخيالية بلا مجهود، وهو من جهة أخرى دليل على خروج الجيل الحاضر من الدائرة الضيقة للمتعة الشخصية، وتفكير في مستقبل الأجيال التي ستعيش بعد أن تنتهي فترة الثراء الذي تمر به البلاد حاليا.
ومن ناحية أخرى فإن التصنيع في مفهوم التنمية الاقتصادية الإسلامية يجب أن يستهدف إشباع الحاجات الأساسية لعموم الناس، كما أنه يجب أن يقوم على تطور متوازن للزراعة والصناعة معا. فمن غير المتصور قيام تنمية صناعية دون أن يؤازرها نمو مواز في القطاع الزراعي ليمدها في المراحل الأولى من النشأة بالقوى العاملة التي عززتها التنمية الزراعية، وليمدها بعد ذلك بالمواد الخام والوسيطة، ويوفر للعمال الصناعيين بالمدن المواد الغذائية، كما أنه سيكون لنجاح نمط التصنيع الموجه لإشباع الحاجات الأساسية أثر في تطوير الزراعة نفسها، من خلال ما يوفره لها من مواد وسيطة -أسمدة ومبيدات- ومعدات إنتاجية.
ثالثا: الاعتماد على الذات
لقد كان الفشل في التنمية في العقدين الماضيين في غالبية الدول الإسلامية مقترنا بتزايد وتفاقم الاعتماد على غيرنا، وقد اتضح هـذا في
[ ص: 133 ] تزايد تبعية دول العالم الإسلامي للعالم الرأسمالي تمويليا، ونقديا، وتجاريا، وتكنولوجيا ، وغذائيا، وكل ذلك أدى في النهاية إلى إعادة دمجها بإحكام، في السوق الرأسمالي، وإخضاعها لشروط عمل هـذا السوق، وإلى فقدانها السيطرة على مواردها الاقتصادية، وابتكار آليات جديدة لنهب فائضها الاقتصادي، وإلى حرمانها من حرية صنع قرارها الاقتصادي المستقل، ولهذا فلا يمكن أن تتحقق التنمية الاقتصادية الإسلامية إلا بنفي هـذا كله، أي بتحقيق الاعتماد على الذات.
والاعتماد على الذات لا يعني الانغلاق على النفس، أو أنه مرادف للاكتفاء الذاتي، بل إن حقيقته تتمثل أساسا في نفي التبعية الفكرية التي تتمثل في ازدراء القدرات الذاتية، والتطلع دائما -عندما تحدث لنا أية مشكلة- إلى غيرنا بحثا عن الحل الجاهز، إنه موقف ثقة بالنفس وبالشعب، واحترام للتراث الحضاري لشعوبنا وقدرتها على الإبداع والابتكار. ومن المؤكد أن الاعتماد على الذات بهذا المعنى يمثل أحد الأعمدة الأساسية في إقامة بنيان التنمية الاقتصادية الإسلامية.
وإذا أردنا أن نعطي معنى محددا لفكرة الاعتماد على الذات، فلا بد أن نحدد العناصر التي تنطوي عليها وهي:
(1) و ضع حد لمشكلة تفاقم الديون الخارجية وما تستنزفه من موارد ضخمة تمثل إضعافا للاعتماد على الذات، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال:
[ ص: 134 ] أ- تصفية جبل الديون المتراكم في الماضي.
ب- تقليل الحاجة للاقتراض الخارجي.
والقضية الأولى لن تحل من خلال المعالجات المؤقتة والمسكنة المتمثلة في إعادة جدولة الديون، أو السعي للحصول على المزيد من الاقتراض لدفع أعباء الديون القديمة، بل الأمر يتطلب موقفا تضامنيا بين دول العالم الإسلامي، ودول العالم الثالث المدينة للبحث عن حل جذري يأخذ بعين الاعتبار المحاور العالمية والإقليمية والداخلية للمشكلة، أما القضية الثانية فلن تحل إلا من خلال تنمية موارد التمويل المحلي، وضرورة الإدخار من الإنتاج المتزايد، الأمر الذي يعني ضرورة ألا تلتهم الزيادة في الاستهلاك الجاري كل ثمار التنمية.
(2) يجب على البلاد الإسلامية أن تعطي لقضية إنتاج الغذاء وتنميته أهمية استراتيجية ليست فقط بسبب ارتفاع الأسعار العالمية للموارد الغذائية، وما أدى إليه من تفاقم في عجز موازين المدفوعات، وإنما أيضا بسبب تحول الغذاء إلى سلاح سياسي للاستقطاب وفرض التبعية.
(3) إن مفهوم الاعتماد على الذات له بعد جماعي ، بمعنى أنه يمتد ليشمل إقامة نوع من أوجه التعاون والعلاقات ذات المصالح المتبادلة بين مختلف الدول الإسلامية التي تعاني من مشاكل وهموم متشابهة، وتوجد بينها عوامل التقاء كثيرة للتعاون المثمر، يأتي في مقدمتها توحيد الصفوف والمواقف في القضايا الاقتصادية الدولية المثارة (مثل قضية
[ ص: 135 ] الديون الخارجية، وقضية نظام النقد الدولي، والتجارة الخارجية) كما أن
التعاون يمكن أن يشمل إقامة أنواع مختلفة من المشروعات المشتركة، وعددا من الأمور الحيوية مثل:
أ- تكوين اتحادات عالمية لمنتجي السلع والمواد الأولية على غرار الأوبك.
ب- منع وجود طرف ثالث يتوسط عمليات التجارة والدفع بين البلاد الإسلامية.
ت- تبادل التكنولوجيا المتاحة التي طورتها بعض البلاد النامية.
ث- وجود نظام عام للتفضيلات الجمركية بين البلاد الإسلامية.
رابعا الأخذ بالأساليب العلمية والتقنية الملائمة
يوجب الإسلام إتقان العمل وتحسين الإنتاج كما وكيفا، ويعتبر ذلك أمانة ومسئولية وقربة لقول الله تعالى:
( ولتسألن عما كنتم تعملون ) [النحل: 93]، وقوله تعالى:
( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [الكهف:30] كما
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) (أخرجه
البيهقي ) .
ولإتقان العمل والإنتاج يتعين إتباع أدق وأحدث الأساليب الملائمة في الإنتاج، وصدق الله العظيم إذ يقول:
( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [الزمر:9].
[ ص: 136 ]
والأخذ بالأساليب العلمية في العمل والإنتاج كالتزام إسلامي لضمان نجاح التنمية الاقتصادية هـو ما يطلق عليه بالاصطلاح الأجنبي " تكنولوجيا " وبالاصطلاح العربي " تقنية " بمعنى أتقن العامل الأمر وأحسنه.
وتعرف التكنولوجيا على أنها الجهد المنظم الرامي لاستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب العمليات الإنتاجية، فهي مجموع الوسائل التي يوظفها الإنسان لتسخير الطبيعة المحيطة به، وتطويع ما فيها من موارد وطاقات، وإشباع حاجاته الأساسية المتمثلة في الغذاء والكساء والتنقل، ومجموعة السبل التي توفر له حياة رغدة آمنة. وتعتبر التكنولوجيا اليوم دعامة للقوة الغربية وسلاحا في أيدي أغنياء العالم. ومن ثم فإن فقدان المسلمين للقوة " التكنولوجية " يعرضهم لأخطار النفوذ الغربي والشرقي المتزايد، ويمنح الدول الغنية أكثر من فرصة لإعاقة التنمية الإسلامية ، واستبعاد النهضة الحقيقية في العالم الإسلامي.
وفيما يتعلق بموقف التنمية الاقتصادية الإسلامية من موضوع " التكنولوجيا " فإنها تختلف مع تلك الأفكار الساذجة المغلوطة، التي تروج حول سحر " التكنولوجيا " المعاصرة الموجودة في العالم الغربي، والتي ترى أن الحصول عليها كفيل بأن يحول مجتمعاتنا الإسلامية المتخلفة بقدرة فائقة إلى عالم متحضر، ذلك أن التقنية المطلوبة هـي
[ ص: 137 ] التي تتناسب مع واقع المجتمع واحتياجاته، إذ ما يصلح لمجتمع معين لا يصلح لمجتمع آخر يختلف عنه في ظروفه وبيئته.
ومتى كان المعول عليه هـو ظروف كل مجتمع، خاصة من حيث نوعية ثرواته وموارده الطبيعية المتوافرة، ومن حيث كثافته السكانية وكفاية أفراده، ومن حيث احتياجات المواطنين الأساسية وأذواقهم، فإن هـذه الظروف هـي وحدها التي تحدد التقنية المطلوبة، فالتقنية التي تعتمد على النفط تناسب دولة
كالسعودية ، أو على القطن فتناسب دولة
كمصر ، وهناك التقنية التي تعتمد على كثرة الأيدي العاملة مع قلة المهارة، كصناعة النسيج، أو التي تعتمد على قلة الأيدي العاملة مع ارتفاع المهارة كصناعات الآلات الحاسبة.
وهنا نؤكد أن التقنية الملائمة التي تحتاج إليها التنمية الإسلامية في عالمنا الإسلامي، هـي التي تتوجه لإنتاج الحاجات الأساسية للسكان، وليس بالضرورة أن تكون آخر صيحة في عالم التحديث. فالتقنية الملائمة يجب أن تكون ذات كفاءة اقتصادية، وهذه الكفاءة ترتبط كما قلنا سابقا بطبيعة الموارد المتوافرة، وبالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتصدى لمعالجتها، وهذا يعني أن ما تحتاج إليه أغلب البلاد الإسلامية، هـو ذلك النوع من الفنون الإنتاجية التي تراعي قلة اللجوء إلى الآلات، والتقنيات التي تتطلب الأيدي العاملة القليلة، وكثرة اللجوء إلى التقنيات التي تتطلب الأيدي العاملة الكثيفة، وذلك لمعالجة مشكلة
[ ص: 138 ] البطالة كهدف أساسي، كما يجب ألا تكون ملوثة للبيئة، بمعنى ألا يؤدي استخدامها إلى تدمير العلاقة التوازنية بين الإنسان وبيئته الطبيعية، وأن تستغل الموارد الطبيعية أحسن استغلال ممكن.
والتقنية الملائمة بهذا المعنى لا يمكن استيرادها من الخارج، فهذا الخارج لا توجد لديه الحوافز ولا الدوافع الموضوعية، لتشكيل " تكنولوجيا " ملائمة خاصة بأوضاع البلاد الإسلامية، وأن كل ما يهم هـذا " الخارج " في هـذا المجال هـو أن " تكنولوجيته " هـي إحدى الأسلحة الفعالة التي يضمن بها سيطرته على بلادنا، من خلال ما تخلقه من تبعية " تكنولوجيته " وأن يكون هـذا السلاح في الوقت نفسه وسيلة لاستنزاف الفائض الاقتصادي.
والخلاصة أن التقنية الملائمة التي تتفق مع منطق التنمية الاقتصادية الإسلامية يتعين على البلاد الإسلامية أن تبتكرها أو تتعرف عليها، وذلك من خلال الفهم الدقيق للواقع الاقتصادي والاجتماعي، ولطبيعة المشاكل السائدة فيه، وعن طريق عدم ازدراء التقنية التقليدية المحلية، التي كان لها باع طويل في تقديم الكثير من الحلول لهذه المشاكل قبل مجيء الاستعمار ، ومن هـنا تأتي أهمية المحافظة عليها وتطويرها.
وإذا كنا نرى أن التقدم التقني بمفهومه الصحيح لا يشترى أو يستورد، وإنما يستنبت داخل أرض الوطن وفقا لمشكلاته واحتياجاته، فإن ذلك يتطلب تقدما أو مناخا علميا، وليس من سبيل في وطننا العربي
[ ص: 139 ] والإسلامي إلى تحقيق التقدم العلمي إلا من خلال تفجير الطاقات والإمكانات العلمية للكوادر المحلية، ومنع تسربها إلى الخارج، وقلب النسق التقليدي للدراسة -فهي لا تنتج إلا التميز الأكاديمي- وتشجيع ملكات الابتكار، والتركيز على علوم مختلفة تغذي بتطبيق معلوماتها في المجال العملي، وتطوير نظم التعليم والبحث العلمي، وربطها بمشاكل المجتمع، وهذا لن يتحقق إلا بأمرين:
الأول: مكافحة الأمية المتفشية بين العرب والمسلمين والتي تبلغ نسبتها بحسب إحصاءات الأمم المتحدة أكثر من 80% من المواطنين. فإنه لا يكفي ألوف الخريجين من الجامعات العربية والإسلامية، ووجود مئات العلماء، ممن يمثلون قطرة من بحر الملايين الأميين، ولكن يتعين أن يشمل التعليم أغلبية الناس الذين أدى جهلهم إلى سلبيتهم وتهميشهم في الحياة، ولا شك أن من أهم معوقات التنمية والتخلف التقني اللذين يعاني منهما العرب والمسلمون والعالم الثالث أجمع، وسيره في طريق التبعية و " الأسر التكنولوجي " للدول المتقدمة، هـو ظلمة الجهل وتفشي الأمية.
الثاني: ربط التعليم العام والجامعي خاصة بواقع المجتمع، وتكريسه لخدمة احتياجاته وتطوره، وأن تقوم بمختلف دول العالم العربي والإسلامي مراكز معلومات وأكاديميات للعلوم
[ ص: 140 ] و " التكنولوجيا " ومعامل تجريبية لاختيار التقنية الملائمة لظروف كل بلد واحتياجاته.
ومؤدى ما تقدم أن المعول عليه في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي هـو الإنسان، إذ الأفراد في كل مكان في العالم يتساوون تقريبا من حيث القدرات الفطرية والمواهب الطبيعية، ولا تتميز دولة عن أخرى إلا بحضارتها تبعا لانتشار التعليم فيها.
خامسا: اعتماد المشاركة الشعبية في التنمية واعتبارها من قبيل الجهاد
إن التنمية الاقتصادية الإسلامية تشترط أن يكون النمو ناتجا من أداء المجتمع ككل، وليس من قطاع منعزل يعتمد على الخبرة الأجنبية، فالتنمية الاقتصادية الإسلامية كعملية حضارية تتركز على قدرات ذاتية راسخة ومتطورة، تتمثل في قدرة اقتصادية دافعة، وقدرة اجتماعية متفاعلة ومشاركة، وقدرة سياسية واعية وموجهة، وقدرات إدارية ذات كفاءة، وانحسار أي نوع من هـذه القدرات يشل التنمية ويعرقلها.
ورغم أن الرفاهية الاجتماعية هـدف من أهداف التنمية الاقتصادية الإسلامية، بحكم أن الإنسان هـو هـدف التنمية فإنه يجب أن تكون مرتبطة بجهد الإنسان وعمله، لأن الإنسان هـو هـدف التنمية ووسيلتها في آن واحد، أما الرعاية الاجتماعية التي لا يرتبط فيها المردود على الفرد بالجهد الذي بذله، فستكون عاملا سلبيا في إضعاف الحافز على
[ ص: 141 ] العمل، وخلق مجتمع يعيش على الرعاية، ويتقاعس عن العمل، مجتمع يعيش على الاستهلاك والاستيراد، ولا يعرف إلى الإنتاج سبيلا، وبما أن التنمية الاقتصادية الإسلامية تتوجه إلى الداخل، وتهدف لأن تكون مستقلة، وتصاغ على أساس إشباع الحاجات الأساسية لأغلبية السكان، وتعتمد على النفس، فلا بد أن تكون تنمية يقوم بها الشعب، وهو ما يعني ضرورة المشاركة الشعبية في تحقيقها، فهي ليست عملية فنية يكتفى فيها بمجرد إعداد خطط التنمية، ثم متابعة تنفيذها لدى القطاع الخاص أو العام، وإنما هـي عملية جماهيرية تتطلب تعبئة جميع المواطنين لها بحيث تكون مطلبا شعبيا ملحا يعي كل فرد مسئوليته المحدودة فيها، ويدرك حقوقه المؤكدة من نجاحها، فلا يكفي أن تتوافر إرادة التغيير وتنمية المجتمع لدى بعض القيادات الخاصة، وإنما أن يتحول ذلك إلى إرادة شعبية.
وإذا كنا نقول بضرورة تعبئة الجهود الشعبية للتنمية الاقتصادية الإسلامية، فإن ذلك لا يكون بالتلقين والشعارات كما هـو حاصل في بعض الدول النامية، والتي تغلب عليها عادة الاتجاهات المتسلطة وديكتاتورية الحكم وإنما تتم تعبئة هـذه الجهود الشعبية بالمشاركة الفعلية في مشاكل المجتمع، وذلك بفتح باب الحوار والمناقشة فيها بحرية وصدق، والاستماع إلى مختلف أوجه النظر المعارضة، بحثا عن حلول سليمة يقتنع ويلتزم بها الجميع.
[ ص: 142 ]
والمشاركة الشعبية في التنمية هـي في نظر الإسلام غاية ووسيلة في آن واحد، استنادا إلى عموم قول الله تعالى:
( وشاورهم في الأمر ) [آل عمران: 159]، وقوله تعالى:
( وأمرهم شورى بينهم ) [الشورى:38] ولقد ثبت أن المشاركة الشعبية في التنمية الاقتصادية هـي عصب استراتيجية التنمية، وذلك بخروج المواطن العادي من السلبية التي كان يفرضها عليه وضعه الهامشي في المجتمع.
وإذا كانت مشكلة التخلف في مختلف صوره، هـي من أولى المشكلات التي تواجه الشعوب العربية والإسلامية اليوم، فإنه لا بد من تعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف من أجل التنمية ، ونرى لذلك ضرورة ربط التنمية بفكرة الجهاد الأمر الذي يترتب عليه الثواب والعقاب تفجيرا للطاقات المختزنة في الفرد المسلم، وتحقيقا للتنمية الشاملة بإحالتها إلى ممارسة دينية وواقع إيماني، ذلك أن قوام المجتمع الإسلامي هـو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقول الله تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران: 110] والأمر بالمعروف يتضمن في رأينا بصفة أساسية تحقيق التنمية الشاملة، والنهي عن المنكر يشمل أساسا القضاء على أهم صوره ألا وهي التخلف والفقر الذي يؤدي إلى الذلة والمسكنة، وإلى كثير من المساوئ الاجتماعية والانحرافات الخلقية.
[ ص: 143 ]
فلا بد أن نعبئ النفس عن طريق وسائل الإعلام كافة من صحافة وإذاعة وتليفزيون ومساجد... إلخ، ونعلنها حربا مقدسة ضد التخلف، ومن أجل التنمية الشاملة.
ولا بد أيضا من الإسراع إلى وضع خطط محددة تعهد إلى مختلف قطاعات الشعب خاصة المواطنين وطلاب الجامعات وأفراد القوات المسلحة، وكذلك مختلف النقابات والجمعيات والنوادي، من أجل القضاء على معوقات التنمية، وهي الأمية المتفشية بالوطن العربي والعالم الإسلامي، من أجل القيام بمشاريع إنمائية تعتمد على الجهود الذاتية، ذلك أن الدولة وحدها عاجزة عن محو الأمية أو القيام بالمشاريع الإنمائية كافة. ولا شك أنه لتحقيق ذلك لا بد من القدوة من جانب القادة والمسئولين، وأن يكرس العمل السياسي جهوده لدفع حركة التنمية وحشد مختلف الطوائف الشعبية للمشاركة في البناء والتعمير، وأن يعيش المجتمع كله في مناخ التنمية.
وتبدو أهمية وضرورة ما تقدم من أن التحدي الذي نلقاه من قبل
إسرائيل وغيرها، ليس تحديا عسكريا فحسب، وإنما هـو أساسا تحد حضاري، فإسرائيل ومن هـم وراءها، ينشدون التمكن من العالم الإسلامي، ويهدفون إلى السيطرة الاقتصادية على المنطقة العربية، ومعركتنا مع إسرائيل ليست مقصورة على إزالة آثار العدوان فقط، وإنما هـي تتصل بتخلفنا الحضاري، وما يتطلبه من ضرورة التنمية العاجلة التي
[ ص: 144 ] يجب أن تجسد قوى وإمكانيات الشعوب العربية والإسلامية كلها، ولندرك جيدا أن الخطر الحقيقي الذي نواجهه ليس قوة
إسرائيل ومن وراءها، وإنما هـو تفرق العرب والمسلمين، إلى جانب تخلفهم، رغم ما لديهم من إمكانات بشرية ومادية ضخمة، ولا شيء أقام إسرائيل وأطمع فينا العدو، سوى تفرقنا وتخلفنا، فجهادنا اليوم، هـو جهاد ضد التفرقة، وهو جهاد ضد التخلف من أجل التنمية الشاملة ، وصدق الله العظيم إذ يقول:
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) [آل عمران: 102]، ويقول الله تعالى:
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) [الأنفال: 60].
سادسا: الالتزام بأولويات التنمية والمعالجة الجذرية لمعوقاتها
لعل أهم الضمانات الإسلامية لتحقيق التنمية الاقتصادية واستمرارها، ما أجمع عليه فقهاء الإسلام من تقديم الضروريات على الحاجيات، وتقديم الحاجيات على التحسينيات، وهو ما يعبر عنه في الاصطلاح الحديث بأولويات التنمية ، بل إن الضروريات في الإسلام ليست في مرتبة واحدة، فلا يراعى ضروري إذا كان في مراعاته إخلال بضروري أهم منه، والأمر نفسه بالنسبة للحاجيات والتحسينيات.
وتطبيقا لهذا المبدأ فإن المرافق العامة كتعبيد الطرق، وتوفير المياه والكهرباء والهاتف.. إلخ، مما اصطلح عليه بالتجهيزات الأساسية مقدمة على إنشاء المصانع، وإن المصانع التي تنتج الحاجات الأساسية
[ ص: 145 ] للجماهير كالسلع الغذائية والملابس مما اصطلح عليه بالصناعات الاستهلاكية ، مقدمة على الصناعات الثقيلة، كما أن الصناعة الثقيلة التي تقوم على الموارد المحلية، مقدمة على التصنيع الذي يقوم على الموارد المستوردة، بمعنى أن تكون الموارد الطبيعية المتاحة، هـي القاعدة الصلبة التي ينمو عليها الإنتاج ويتشعب، وأنها وحدها التي تحدد أولويات الصناعة الثقيلة، كذلك يجب أن ندرك جيدا أن كل استثمار في تطوير الريف والمدن الصغيرة يوفر استثمارات هـائلة يفرضها تضخم واكتظاظ العواصم والمدن الكبيرة، بل ودون عائد مناسب، إن لم يكن زيادة في إفساد البيئة وتضييق وإتلاف أعصاب الناس بسبب الازدحام.
وما دمنا نتكلم عن أولويات التنمية ومعوقاتها، فإن الأمر يتطلب مراجعة جذرية للتعليم وبخاصة الابتدائي والمتوسط، بحيث لا يستمر كما هـو حاصل إلى اليوم مجرد حلقة من سلسلة متصلة الحلقات تؤدي بالضرورة إلى الجامعة، بل يجب أن يكون التعليم مستقلا هـدفه محو الأمية الوظيفية ، واكتساب قدرات إنتاجية، وإيجاد عمالة مدربة، ولن يتحقق ذلك إلا بتغيير برامج الدراسة الابتدائية والمتوسطة، بحيث يكون هـدفها تنمية ملكات الصبي الجسدية والعقلية والنفسية، وتأهيله للعمل اليدوي والذهني في آن واحد، وألا تظل المدرسة في عزلة عن البيئة المحيطة بها في الأرياف أو الأحياء، بل تعاون وتشارك في أنواع النشاط الاقتصادي السائد بالريف، زراعيا كان أو تجاريا أو صناعيا.
[ ص: 146 ]
وهنا ننبه إلى أن أهم عنصر من عناصر التنمية الاقتصادية ليس هـو عنصر المال أو التراكم الرأسمالي أو الفائض الاقتصادي، ولا هـو عنصر الأرض أو الموارد الطبيعية، وإنما هـو عنصر العمل التقني أو العمالة المدربة أو الكفاية البشرية .
لقد أتت الحرب العالمية الثانية ودمرت معظم مصانع
أوروبا واليابان ، وجردتها من كل إمكاناتها المادية، ومع ذلك فإن نموها الاقتصادي فاق كل خيال بسبب كفايتها البشرية، وإن أغلب دول
أفريقيا وآسيا غنية بالثروات والموارد الطبيعية، ولديها كثرة سكانية، وبعضها -كالدول المنتجة للنفط- لديها فائض اقتصادي ضخم، ولكنها جميعا متخلفة اقتصاديا بسبب افتقارها إلى الكفاية البشرية والعمالة المدربة، وهذا يبين لنا أن أولى ما يجب الاهتمام به لتحقيق أية تنمية اقتصادية هـو التعليم، خاصة الفني، ولا شك أن أكبر سبب لتخلف العالم النامي هـو تفشي الأمية خاصة الأمية الوظيفية ، وليس أدل على اهتمام الإسلام بمكافحة الأمية في عصر الجهالة والجاهلية، أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هـي كلمة اقرأ، وأن الأسير الكافر كان يفتدي نفسه إذا علم عشرة أميين.
وكذلك يتصل بأولويات التنمية ومعوقاتها قضية الجيش والإنفاق العسكري المتزايد، ولا شك أن الإسلام يتطلب القوة العسكرية، ويستلزم التدريب والإعداد، ولو في وقت السلم لقوله تعالى:
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [الأنفال: 60].
[ ص: 147 ]
ولكن نقطة الخلاف هـو أن يظل الشعب -كما هـو الجاري حتى اليوم- متفرجا، وأن يلقي بعبء الدفاع على جيش متضخم هـو عالة على الإنتاج، لذلك نرى أن تكون جيوشنا النظامية المتفرغة بأقل عدد مناسب، وعلى أعلى مستوى من الكفاية، وبحيث يتولى الجيش النظامي بكل دولة عربية أو إسلامية مسئولية التدريب للشعب كله على فترات دورية منتظمة، حتى يمكن أن يكون الشعب بأسره جيشا عند اللزوم، وهذا ما كان يحصل في العهد الإسلامي الأول.
كما أنه ليس هـناك ما يمنع أن يشارك الجيش النظامي ببعض أجهزته وفروعه كسلاح المهندسين وسلاح الأطباء، في عملية التنمية الاقتصادية ذاتها.
سابعا: الارتفاع بالتنمية الاقتصادية إلى مرتبة العبادة
وأخيرا لعل أكبر ضمان لنجاح التنمية الاقتصادية واستمرارها، هـو ارتفاع الإسلام بالتنمية إلى مرتبة العبادة، إذ لم يكتف بالحث على العمل والإنتاج بمثل قوله تعالى:
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) [التوبة: 105].
بل اعتبر العمل في ذاته عبادة، وأن الفرد قريب من الله ومثاب على عمله الصالح في الدنيا وفي الآخرة لقوله تعالى:
( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ) [الشورى: 26]ـ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما عبد الله بمثل عمل صالح وقوله: من أمسى كالا من عمل يده، أمسى مغفورا له يوم
[ ص: 148 ]
« القيامة »
>[3]
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيد ورمت من كثرة العمل وقال: هـذه يد يحبها الله ورسوله
>[4]
ولقد سوى الإسلام بين المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية، وبين الساعين من أجل الرزق وفي سبيل النشاط الاقتصادي لقول الله تعالى:
( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) [المزمل: 20].
وأكثر من ذلك، اعتبر الإسلام السعي على الرزق وخدمة المجتمع وتنميته أفضل ضروب العبادة، فقد ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل كثير العبادة فسأل عمن يقوم به، فقالوا: أخوه، فقال عليه السلام : أخوه أعبد منه
>[5] ، وقد أراد أحد الصحابة الخلوة والاعتكاف لذكر الله،
( فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته ستين عاما ) >[6] [ ص: 149 ]
والخلاصة أن التنمية الاقتصادية في الإسلام، هـي فريضة وعبادة، بل هـي أفضل ضروب العبادة، وأن المسلمين قادة وشعوبا مقربون إلى الله تعالى بقدر تعميرهم للدنيا، وأخذهم بأسباب التنمية في مختلف جوانبها، ولقد لخص
عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظرة الإسلام إلى العمل والتنمية " بقوله: " والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة "
>[7] [ ص: 150 ]