المناصحة واجب شرعي في القضايا الفكرية نصل إلى السؤال الآخير.. في تقديري، يعتبر كتابكم الأخير (التفسير السياسي) مساهمة من مساهمات المناصحة - ولا أقول النقد الذاتي - في مجال العمل الإسلامي. ويعتقد كثير من العاملين للإسلام بأن عملية المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما يسمى بالنقد الذاتي، تعرض العمل الإسلامي لشيء من خلخلة الصفوف، وترسم بعض الثغرات للعدو لينفذ منها، وتؤثر بشكل سلبي على واقع العمل الإسلامي؛ مع أننا نعتقد بأن التصويب والمناصحة، إلى جانب أنه واجب شرعي لا يملك الإنسان المسلم إزاءه اختيارا، نعتقد بأن فائدته على العمل الإسلامي نفسه، من حيث متانة الصفوف ورسوخ العمل وصلابة الأرضية التي يقف عليها، أقوى بكثير من السكوت عن الأخطاء التي تؤدي إلى انهيار العمل الإسلامي.. وهذه قضية أرى أن تتوسعوا لنا في الإجابة عليها؟ [ ص: 29 ]
هذا سؤال قد يكون محرجا بالنسبة إلي، ولكنه سؤال قد يفتح الآفاق ويزيح الستار عن بعض سوء فهم أو سوء تعبير.. في الحقيقة أنا أعتقد أن السر في بقاء الإسلام أنه دين محفوظ من التحريف، مهما أخل به أتباعه وقصروا في تطبيقه، والسر في بقاء هـذا الدين على أصالته هـو: قيام علماء الدين في كل عصر بنفض الغبار عنه، وبالتنبيه على المغالطات التي تأتي من المنحرفين، المغالطات التي تأتي من الأعداء أمر هـين.. ولكن المغالطات التي تأتي من جهة الدعاة، من جهة المفسرين للإسلام الفاهمين له، بعض الفقهاء، هـذه مغالطات دقيقة جدا، وتشكل محنة للعقل الإسلامي ومحنة للعمل الإسلامي.. فنرى في تاريخ الإصلاح، في تاريخ الدعوة الإسلامية، في تاريخ الفكر الإسلامي، أن العلماء لم يقصروا في تنبيه الفقهاء على أخطائهم وفي تنبيه الصوفية والزهاد والنساك على مغالطاتهم، وفي تنبيه الحكام على مغالطاتهم، في وقت واحد.
فإذا كانوا قد شعروا أن هـذا قد يحدث اضطرابا أو قد يحدث ما لا تحمد عاقبته من فقد الثقة بالدعاة، كان هـذا ربما يمنع من الاستمرار في هـذا الاتجاه.. ولكنهم وفقهم الله عرفوا أنه بالمقدار المناسب، المقدار الذي لا بد منه إذا كان هـذا النقد بإخلاص، وإذا كان هـذا النقد باعتراف وبتقدير من ينتقدونه، ولكنه بمقدار مناسب وإلى حد مناسب، فهذا في صالح الدعوة الإسلامية وفي صميمها.. في الحقيقة هـو العمود الفقري في الدعوة الإسلامية.
لعلكم تعرفون ما كان بيني وبين الأستاذ المودودي من صلة طيبة، ومن صداقة قديمة.. ولعلي أنا الرجل الوحيد الذي فارق الجماعة وبقي على صلة طيبة مع الأستاذ المودودي مؤسس هـذه الجماعة. حتى اللقاء الأخير الذي تم في لاهور في سنة 1978م، تلاقينا كأخوين، كصديقين قديمين، لا يزالان على ودهما وصداقتهما.. ولما قدمت له كتاب التفسير السياسي الذي انتقدت فيه بعض أفكاره أو تعبيراته بالأصح، استقبل هـذا الكتاب وجاءني منه كتاب يشكرني عليه ويطلب مني أن أطالع ما بقي من كتبه إذا كان بقي شيء، أو أنبهه.. قال (لعلكم قرأتم) : أنا لا أعدكم أني سأوافقكم مائة في المائة، ولكني سأنتفع، وأنا لا أرى نفسي فوق مستوى النقد. أنا كما قلت في مقدمة الكتاب: من رأيي أن النقد لا يطبق عليه قانون الاتجاه الواحد كما هـو في البلديات مثلا في تنظيم الشوارع والمراكب، النقد ذو وجهتين، إذا قام إنسان لانتقاد إنسان، لانتقاد جماعة، [ ص: 30 ] خصوصا من سبقوه ومن يمكن أن يكون أفضل منه، فهذا قد خول لغيره حق نقده كذلك، في وقت واحد، وفي المنطق نفسه.. أنا أرى أن هـذه العملية يجب أن تستمر عملية النقد، ولكن بإخلاص وبالمقدار المطلوب وبأمانة وبدقة وبرحابة صدر وبالاعتراف بفضل المنتقد، ولكن لا يقوم بها كل واحد.. إنما يقوم بها القادرون عليها، وهذا شأن كل فن وشأن كل وظيفة.
** يمكن أن نكون حصلنا على الإجابة.. لكن مزيدا الإيضاح.. هـل ترون أن هـذا يؤثر على الصف الإسلامي بشكل سلبي، كما يعتقد بعضهم.. أم أنه يمكن من بناء الصف الإسلامي؟
إذا كان الصف الإسلامي بهذه العقلية الضيقة، أنه إذا انتقد مثلا موجهه أو منير الطريق له بشيء من الانتقاد، ثار فيه الغضب، فهذا الصف لا يوثق به.. ليس بالمكان المطلوب من القوة ومن الثقة ومن الجدارة.. فيجب أن يكون كل صف إسلامي وكل جماعة إسلامية تقوم لخدمة الدعوة للإسلام، تكون عندها من رحابة الصدر ومن سعة الأفق ما يجعلها قادرة على هـضم هـذه الانتقادات وعلى وضعها في المكان السليم، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم .
التالي
السابق