وعاء الفكر ** تعلمون فضيلتكم مدى أهمية اللغة العربية، ودورها في حماية الشخصية الإسلامية في المغرب من الذوبان في ثقافة المستعمر الفرنسي حيث صرفتم جهودكم، والمجاهدون المخلصون -في مرحلة ما قبل الاستقلال- إلى الكفاح الوطني والتمكين للعربية والعلوم الإسلامية بوسائل كثيرة، لعل من أهمها فكرة المدارس الخاصة، ولعلكم تتفقون معنا على أن يكون بدء الحوار مناقشة أبعاد هـذه الفكرة.
أحسسنا في تلك المرحلة بأن التعليم -الذي أنشأته الحكومة الاستعمارية- لم يكن ليفي بالأغراض التي نتطلبها لنهضة الأمة المغربية المسلمة، حيث كانت الفكرة الإسلامية غائبة تماما، وكذا الفكرة العربية والوطنية، فمواد التاريخ والجغرافيا كانت تعطي تاريخ وجغرافية فرنسا عناية فائقة، ولم يكن هـناك أي اهتمام بالدين الإسلامي في المناهج الدراسية، على أهميته كعقيدة ومبدأ وأيديولوجية ونظام حياة.
وعندما أحسسنا بذلك قررنا -منذ منتصف العشرينيات- تأسيس ما سمي التعليم الحر آنذاك، حيث أنشأنا مدراس أهلية خاصة في فاس والدار البيضاء والرباط وغيرها من المدن المغربية، والجدير بالذكر هـنا أنه لم تكن هـناك هـيئة أو جهة معينة تتولى فتح هـذه المدارس أو تأسيسها، وإنما كان فتحها مجهودا فرديا شخصيا، ولكن في إطار العمل الوطني، فقامت أولا على جهود الأفراد فقط بمساعدة بعض ذوي الغيرة، ثم بعد ذلك لما [ ص: 109 ] رأى محمد الخامس -رحمه الله- نتيجة تلك المدارس- حيث كان يحضر أحيانا بنفسه لتدشين وفتح بعضها -سعى مع مديرية المعارف لإعانتها، فخصصت لها بعض المساعدات من ميزانية الدولة.
** وكيف كان الإقبال على هـذه المدارس الخاصة؟
كان الإقبال عليها كثيرا، بحيث استوعبت عددا من التلاميذ والناشئة يفوق عدد أولئك في المدارس الحكومية التي فتحها المستعمر.
** ما هـو - في رأيكم- الدافع الأساسي لاستجابة المواطنين وإقبالهم على المدارس الخاصة وعدولهم عن الفرنسية، خاصة وأن بعضهم -على مستوى البسطاء- يظنون أن المدارس الأجنبية مدارس ذات صبغة علمية وإمكانات تربوية.. وما إلى ذلك؟
في بداية الأمر، عندما فتحت المدارس الحكومية، توجس منها الناس خيفة، فكانوا لا يرسلون بأبنائهم إليها إلا بعد أن يكملوا مرحلة (الكتاب) وبعض المعاهد الدينية التابعة لجامعة القرويين، وبعد أن يتأكد حصول الأبناء على قدر من المعلومات الإسلامية الأساسية التي تعين على تكوين شخصيتهم المسلمة، يؤتى بهم إلى هـذه المدارس الحكومية.. ومن ناحية أخرى كانت الإدارة الفرنسية تتساهل كثيرا في قبول تلاميذ في سن متقدمة حتى تملأ المقاعد المخصصة، ولهذا كانت حصيلة المدارس الحكومية هـذه في بداية الأمر طيبة، إذ تخرج فيها تلاميذ يجمعون بين الثقافة الأجنبية والثقافة العربية الإسلامية فكانت طليعة لا بأس بها.
ولكن -مع هـذا- فقد لمس الناس سوء إدارة التعليم "المعارف" من خلال برامجها ومناهجها وتخطيطاتها لتعجيم الألسنة وإلغاء اللغة العربية تقريبا، وكذلك لمحاربة الفكرة الإسلامية والفكرة الوطنية، لا سيما في صدور الظهير البربري، الذي كان يهدف إلى إبعاد العنصر البربري من أهل المغرب عن الإسلام بإلغاء التحاكم فيما بين أفراده إلى الشريعة الإسلامية، ومن ثم استدراجه إلى اعتناق النصرانية أو نبذه لفكرة التدين مطلقا وإدماجه في العائلة الفرنسية، ولكن الشعب المغربي المسلم الذي قضى بغيرته الدينية على هـذه السياسة، وجعلها منطلقا إلى الجهاد في سبيل استقلاله وحريته، كان قد توجس خيفة من المدارس الحكومية الفرنسية، وأخذ يتجه بأبنائه إلى المدارس الخاصة. [ ص: 110 ]
ومن المدهش حقا أن معظم الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقوا دراسات أجنبية وثقافات باللغة الفرنسية كانوا هـم أحرص الناس على إلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة.. وليس من سبب في ذلك إلا أن يكونوا قد عرفوا أكثر من غيرهم خطورة النهج الذي تنتهجه المدارس الحكومية.
** كيف ترون خطورة مبدأ التعليم باللغة الفرنسية، أو بأي لغة أخرى غير العربية؟
اللغة -أي لغة- من حيث إنها وعاء الفكر، والأداة المعبرة عن سوسيولوجية الشعب الناطق بها، فإنه لا مفر أبدا من أن تترك أثرها في نفس المتعلم بها، وطبع تفكيره بطابع أهلها المميز لهم، حتى إنك لا تتعب في استكشاف بصمات التأثير الاجتماعي الفكري في حياة الفرد وسلوكه، ومن ثم في حياة الشعب الذي يكثر فيه المتعلمون بهذه اللغة..
والفرنسية التي كانت سائدة كلغة تلقين في التعليم الحكومي قبل الاستقلال، أول ما تتميز به أنها لغة أمة تفصل الدين عن الدولة ومصالحها العامة، وأهم هـذه المصالح التعليم، فتعليم أهلها مبني على تجاهل الدين والنظر إليه بعين الشك والارتياب، ولذلك يثمر التعليم باللغة الفرنسية رقة الدين وضعف الإيمان، وهذا أمر مشاهد في كثير من شبابنا المتعلم بها، ولم تستطع الدروس الدينية ومادة التربية الوطنية أن تحميه منه، إلا من رحم ربك..
التالي
السابق