البيعة العامة.. وجماعة المسلمين
** في الحقيقة يمكن أن تنسحب آثار قضية إلزامية الشورى أو عدم إلزاميتها على بعض العاملين للإسلام من الجمعيات والجماعات الإسلامية.. فقضية عدم إلزامية الشورى واردة عند بعض الجماعات الإسلامية أو العاملين للإسلام، وقد أوقع -ولا يزال- بكثير من الارتباك، ويمكن أن يكون الوجه الآخر للقضية هـو مشكلة فهم النصوص التي وردت بشأنها، ونحن نعلم أن البيعة العامة لا يمكن أن تكون إلا للحاكم المسلم القادر على مدى معين وصلاحيات معينة، فبعض الجماعات الإسلامية وبعض العاملين للإسلام وقعوا في مشكلتين.. الأولى: عدم إلزامية الشورى، [ ص: 135 ] والثانية: البيعة العامة لأمير العمل أو لقائد الجماعة أو ما إلى ذلك، الأمر الذي أحدث فيما بعد شيئا من التعسف في التعامل مع الأحكام الفقهية -من جانب- وتصورهم أنهم جماعة المسلمين، أدى إلى شيء من التحنيط، والحكم على المسلمين خارج إطارهم بأحكام أبعدت بينهم وبين رسالتهم الحقيقية حيث أغلقت منافذ الدعوة إلى الله.
هذه كلها أخطاء لا أستطيع أن أنكرها، وقعت في العالم الإسلامي -للأسف- فإن كثيرا من العاملين في الميدان الإسلامي تصرفوا بطريقة تستدعي التساؤل والدهشة، فأولا: كثير منهم سمى نفسه أميرا، ومبلغ علمي أن الأستاذ حسن البنا كراهية منه للرياسة، ولما يعلمه من أن حب الرياسة وطلب الإمارة أساء إلى المسلمين في تاريخهم الطويل، سمى نفسه مرشدا، وكره أن يكون رئيسا أو أميرا، فلا أدري ما الذي جعل أعدادا كبيرة من الجماعات الإسلامية تطلق على القائمين بالأمر فيها "أمراء".. وصحيح إنه "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم"، لكن ليس المقصود أن يكون ذا رئاسة وتعال وإنما المقصود أن يكون مسئولا، وقد تبع هـذا أن الأمير الذي أصبح أميرا لبعض الطلبة أو لبعض العمال أو لبعض الشباب، أصبح يرى لنفسه حقا في إملاء الرأي على الآخرين، بينما قضية الشورى مبهمة في نفسه، فأعطى لنفسه حق التوجيه الذي لا يساءل فيه، والذي يرفض الاعتراض حينما يوجه إليه، وبهذا ساد الاستبداد نواحي كثيرة، وهذا خطأ بيقين.
الشيء الثاني: إن القول بأن هـؤلاء الأمراء للشباب أو للطلاب أوللعمال لهم حقوق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي التي هـي حقوق الخلافة العظمى وحقوق الطاعة على المسلمين لأنهم أولياء الأمر -والله أمر بإطاعة أولي الأمر- هـذا كلام أيضا مرفوض، ولا يمكن قبوله، لأن الخروج على البيعة أو الخروج على طاعة ولي الأمر إنما كانت إبقاء لكرامة الدولة ومكانتها، ومنعا لأن تكون الفتوق سببا في إنهيارها أمام عدوها.. ولذلك كان الخروج المسلح هـو الذي عيب واعتبر أشبه بالردة، لأنه لا شك أن الخروج المسلح على الدولة خطير يبيح الدم، لكن الخروج العادي بمعنى رفض رأي فلان من الأمراء أو الرؤساء فليس شيئا يعاب المرء عليه، ومن الخير أن يكون الإنسان مبديا ما عنده، وما يمكن أن أقول: إن الذي خالف رئيس الجماعة لا أن يمكن يعتبر مارقا من الإسلام أو خارجا على الجماعة أو ناقضا [ ص: 136 ] للبيعة أو مات ميتة جاهلية، إلى آخر التطبيقات التي ينقلونها من ميدان الدولة إلى أفقهم الضيق المحدود الذي يعيشون فيه.
العمل الإسلامي يجب أن يكون بعيدا عن هـذه الكهانات وهذه الادعاءات، فإذا اختار جمع من المسلمين رئيسا لهم، فهو رئيس لهم، يكون إماما لهم كإمام الصلاة، إذا أخطأ فإنه يستفتح عليه ويوجه للصواب، وليس له أن يلزم الآخرين بمتابعته على خطئه، ومن حق الناس أن تراجعه وأن تتركه وأن تخالفه إذا رأت أن مسلكه ينبو عن تفكيرها، ولا يعتبر هـذا إطلاقا عصيانا لله ولا خروجا على الإسلام، أما مسألة النيات فهي إلى الله، فمن ترك جماعة من الجماعات لأن تكاليف الجهاد بهظته أو أثقلته فهو رجل يسأل أمام الله: لماذا استثقل تكاليف الجهاد بينما يجب عليه أن يكون مجاهدا.. أما إذا وجد خطة خطأ، فرأى -بعد أن بذل النصح ورفض سماع قوله- أن يترك هـذا الخطأ، فهذا من حقه، ولا يعتبر خروجا على بيعة ولا انسلاخا عن الملة ولا عودة إلى الجاهلية ولا شيئا من هـذا كله.
** معنى ذلك أن مصطلح جماعة المسلمين الآن يحمل خطورة كبيرة؟
يجب أن يقال جماعة من المسلمين.. أما جماعة المسلمين فلا.. جماعة المسلمين إنما يتكلم عنها الخليفة الأعظم كما يسمي، وهو غير موجود الآن للأسف..
** نقطة أخرى في قضية الاجتهاد .. من المعروف أن باب الاجتهاد أوقف أو أغلق، وهذا أوقع المسلمين بفوضى شديدة جدا.. فالحق أن إيقاف باب الاجتهاد هـو اجتهاد في الأصل.. فهل هـو اجتهاد ملزم؟ ومن أين له صفة الإلزام؟
هذه قضية، القضية الثانية: أليس إيقاف باب الاجتهاد معناه توقيف النمو الإسلامي في مواجهة المشكلات المعاصرة والحكم عليها؟
النقطة الثالثة في الموضوع: ألا يعني هـذا لونا من الانفصال بين الإسلام وبين المجتمع، أو فصل الإسلام عن المجتمع بأيد مسلمة، ومساهمة سلبية منا بتوقيف الإسلام؟ وألا يتعارض هـذا مع خلود الشريعة، وأن الله تعالى الذي أنزل الشريعة عالم بتقلبات الأمم والأحوال وما يسمى بعملية فساد [ ص: 137 ] العصر التي احتج بها من اجتهدوا في ذلك، ودعوا إلى إيقاف الاجتهاد ، وكانت دعوتهم محل نظر؟
الأمر كما قلتم ابتداء إن إغلاق باب الاجتهاد هـو اجتهاد، ويخيل إلي أن الإغلاق لم يكن يعني -في عرف من طالب به أو من فرضه على الناس- لم يكن يعني إطلاقا حبس العقل الإسلامي في هـذه الحجب التي جدت، فالذي حدث -فيما قرأت للبغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) -أن الاجتهاد كان قد بلغ الفوضى، وبلغ بالأمة الإسلامية أن بغداد كان يفتى فيها بحل دم في حي وبحرمته في حي آخر، وبحل المرأة في حي وبحرمتها في حي آخر، ولأضرب مثلا:
هب أن رجلا مسلما قتل ذميا، فإن المالكية أو الشافعية يقولون: لا يقتل فيه، فعصموا دمه، أما الحنفية فيقولون: يقتل فيه، فكان لا بد من تدخل الدولة هـنا أو من تدخل اجتهاد لكي يرجح حكما على آخر ويغلق الباب أمام أحد الاجتهادين.
** هـذا نوع من التنظيم:
هو نوع من التنظيم.. وقد بدأ تنظيما محدودا، ولكنه -للأسف- تحول إلى فوضى، وإلى إماتة، وإلى تجميد للعقل الإسلامي.. كان من الممكن أن يقع طلاق البدعة أو لا يقع مثلا، بعض الناس يقولون تطلق المرأة عندما يقال لها أنت طالق بالثلاث -تطلق ثلاثا- وتتزوج غيره فيما بعد.. بينما يرى بعضهم أنها طلقة واحدة ولا يجوز أن تتزوج الآخر، فكان لا بد من هـذا التنظيم.
التالي
السابق