ترشيد اختيار المنتج الحضاري.. مسئولية من ؟!
سبقت الإشارة
>[1]
بأن آخر الأشياء انتقالا من الحضارة الضاغطة إلى
[ ص: 37 ] المجتمع المضغوط هـو عالم القيم العليا، والعلوم والتقنيات؛ لأنها تحتاج إلى كدح في تعلمها وتشربها، والتفاعل معها، ومن هـنا يتضح أن الفجوة تظل قائمة بين هـذا العالم، وعالم الأشياء، ولأن المهندس هـو صاحب دور أساسي في تحقيق عالم الأشياء، نقلا، وصيانة، وإبداعا، فإنه مطالب بما لم تؤهله له الجامعة، هـو مطالب أن يضع نفسه في حالة تعلم مستمر، ليوفق بين قدراته، وما يستجد في المجتمع من عالم الأشياء، حتى يكون أكثر فعالية في أداء دوره الحضاري في مجتمعه ولأمته.
ومن المؤكد أن المصالح الحكومية، والمؤسسات والشركات الخاصة، في بلداننا تستطيع أن تسهم في هـذا إسهاما متميزا؛ إذ يقع عليها دور عظيم في تحقيق هـذه الغاية.
فالجامعة جهاز تعليمي، يجنح دائما إلى السكون في عالم أكاديمي، وسوف تغط الجامعة ـ أي جامعة ـ في نوم عميق ما لم تستجب لمتطلبات المجتمع من حولها، واحتياجاته، فتنبعث من سكونها الأكاديمي إلى التفاعل الحيوي مع ما حولها أخذا وعطاء.
وبالطبع تحتاج الجامعة إلى توصيف برامجها، وخططها لتتوافق مع الغايات الاجتماعية التي تسعى لتحقيقها، وهذه من أصعب الأمور والتحديات التي تواجه الإدارة في أي جامعة.
ولكن ما هـو دور المهندس ـ خريج الجامعة الذي انغمس في الحقل ومارس المهنة، وواجه ضغوطا حضارية، وتحديات التحديث الملحة؟
هذا سؤال يقود إلى سؤال آخر:
إلى أي حد يكون المهندس مسئولا عن تعليم ذاته تعليما مستمرا؟
هل ينتظر حتى تأتي الجامعات والمعاهد والأجهزة التعليمية، وتعد له برامج لتحديث معلوماته وتدربه على كل جديد؟
في اعتقادنا أن المهندس سوف يطول انتظاره، وسوف يتأخر عن ركب
[ ص: 38 ] التقدم العلمي والتقني، الذي لا بد له أن يواكبه،. فهو مثل الطبيب الجراح على وجه الخصوص، إن لم يستطع أن يواكب أحدث النظريات والطرق في إجراء العمليات، سيظل متأخرا، وبلا شك سيعرض مريضه قبل أن يعرض نفسه إلى الخطر الشديد، فالمهندس إذا ظل " مكانك سر " في تعليمه، وفي توسيع مداركه، وتجديد معلوماته، يظل في حالة غياب علمي، وغيبوبة تقنية عن ما يحدث عالميا.
وطرق التعليم المستمر ليست بالضرورة في فصل دراسي، وليست من خلال برامج تدريبية ؛ إذ من الممكن أن تتم حتى من خلال السفر والسياحة.
فالمهندس عندما ينتقل في بلدان العالم المتقدم المتطور، وينظر حوله، ويبحث فيما يراه، ويتبصر في آيات الله في الكون والحياة، سوف يتعلم ويستفيد، وتزداد الاستفادة إذا تابع ذلك بالقراءة المتصلة في مجال تخصصه، فالقراءة وسيلة مهمة جدا في قضية التعليم المستمر.
وقضية التعليم المستمر، مثلما هـي قضية المؤسسات والأجهزة، فهي مسئولية الأفراد عن أنفسهم، وتحتاج إلى فكر أساسي عند المهندس، حتى يؤمن أنه في كدح دائم، وأن مسئوليته التعليمية دائبة ولا تنتهي. أما أنه قد تعلم الهندسة في الجامعة أو المعهد وانتهى الأمر فهذه خرافة؛ لأنه في عمل دائم إلى أن يموت؛ لأن العلوم الهندسية، والهندسة التطبيقية علوم سريعة التطور والتغيير؛ من أجل هـذا فإن المهندس مطالب بأن يواصل سيره ليفهم ـ ما أمكنه فهمه ـ ما يحدث في الغرب فإننا ـ شئنا أما أبينا ـ مضغوطون بهذه الحضارة، تتسرب من بين جوانبنا، ومن فوقنا ومن تحت أرجلنا، ومن بين أيدينا، ونحن لا نملك إلا أن نلهث خلفها، وليس بوسعنا حاضرا إلا أن نقف منها موقف التلميذ.
إن المهندس مثل باقي أفراد المجتمع مطالب بأن يفهمها، ويتعرف عليها، وله أيضا دور اجتماعي، يفرق لأمته فيه ومن خلاله، بين ما هـو زينة، وما هـو وظيفي، وذلك يعني ـ أول ما يعني ـ أنه يجب عليه أن لا يستجيب لكل ضغط
[ ص: 39 ] يأتيه إذ لا بد أن تتوافر لديه رؤية حضارية، وغربال يفرق به بين ما هـو زينة وترف، وما هـو وظيفة وأساس. على المهندس أن يتبصر طريقه، وأن لا يستجيب لشهوات الناس في مجتمعه وضغوط الحضارة عليهم للتقليد والتبعية.
فما تموج به مجتمعاتنا، من مشاريع وبرامج وخطط، جعلتها تبدو وكأنها ورشة عمل متكاملة ومتصلة، وجعلت الكثير من النظريات الهندسية والأفكار التكنولوجية تتدفق عليها، سواء ما يتصل بالتصميم، أو من حيث التنفيذ، حتى أصبح بإمكان المهندس المثابر الاستفادة من كل ما يتعرض له، ويعرض عليه، ويعترض طريقه، في الحقل والمصنع والمعمل والمكاتب الهندسية، كي يستوعب ما أمكن تطبيقه من تلك النظريات والأفكار، ووسائل التنفيذ المتطورة، وأن يشارك زملاءه فيما استوعبه واطلع عليه، أو مارسه، بأن يعقد معهم ولهم لقاءات عمل ومشاورة متصلة، أو يجتمعون كلما دعت الحاجة على هـيئة حلقة علمية يحضرها المهندسون؛ ليستعرضوا ما تعلموه وشاهدوه، ويتحاوروا فيما يواجههم من مشكلات علمية، أو خبرات ميدانية، وهذا إن تحقق فإنه يشكل بلا ريب وسيلة للتعليم الذاتي المستمر، الذي قد لا يجدها المهندس بين جدران الجامعة، والتي لا تحتاج إلى جهد، بل ويمكن أيضا، تأكيدا لذلك، واستكمالا له، أن تقوم أجهزة الخدمات الهندسية في البلديات والمواصلات وغيرها، بمنح المهندسين العاملين بها إجازة تفرغ علمي . على فترات متفاوتة؛ ليمكنوهم من الاستزادة من العلم والخبرة المتجددة، وجمع أشتات أفكارهم، وتقويم تجاربهم بهدف تجديد معلوماتهم، وتطوير إمكاناتهم، وبهدف تمكين المهندس العامل في الحقل من تحديد المشكلة وتوصيفها، ووضعها في شكل يستخلص منه الخبرة والمعرفة العملية.
فالمهندس الذي ذهب إلى ميدان من ميادين العمل والممارسة، وتكونت لديه محصلة جيدة من التجارب والخبرة سيكون مفيدا لنفسه ولغيره، أن يتفرغ ولو لفترة محدودة؛ كي يستجمع خلالها التجارب التي صادفته في الحقل، ويقومها، ويعطي رأيه في المشاكل الفعلية للتصميم والتنفيذ.
[ ص: 40 ]
ومثل ذلك كمثل الاستفادة من مجموعات المستشارين والخبراء والاختصاصيين والفنيين الذين نستقدمهم من خارج الحدود؛ إذا لا بد أن نشترط حق المشاركة، والتعليم، والتدريب للمهندس الوطني، على الأعمال الهندسية التي يقومون بتصميمها وتنفيذها في بلداننا؛ بحيث تظل مساهمة المهندس الوطني قائمة في جميع المراحل، خطوة بخطوة حتى يتعلم من خبرات أولئك بالاحتكاك، والممارسة، ويكتشف الكثير من أسرار مهنة الهندسة، وهذا جزء من التعليم الذاتي المستمر له.
ويبقى السؤال: هـل نحن على استعداد لكي نتعلم من هـذا الخبير أو الفني الذي أتى إلينا، أم نتظاهر أمامه بأننا علماء وقادرون، وأنه هـو الذي جاء ليعمل، ومهمتنا نحن الإشراف عليه؟ هـذا سؤال حيوي وواقعي وملح، يطرح في ثناياه قضية نفسية هـامة تتصل بالذات.
إن الكثير من المهندسين في بلداننا يواجهون، عقب تخرجهم في الجامعة، وحصولهم على درجتهم العلمية، تحديا مباشرا عندما تسند إلى الفرد منهم مهام أساسية تجعله في موضع كبير من مسئولية اتخاذ القرار، بجانب الإشراف على مجموعة من مهندسين وخبراء، من داخل وخارج الحدود، فالحاجز النفسي الذي يفصله عنهم يجب إزالته؛ لأن رصيده الأساسي وثروته الحقيقية، هـي الخبرة العملية، التي يستطيع اكتسابها خلال فترة احتكاكه بهم، إذا تنازل قليلا عن كبرياء المنصب، دون تفريط في مسئولياته؛ لأن مهندسا لديه عشر سنوات من الخبرة العملية المكتسبة، أفضل بكثير من مهندس حصل حديثا على درجة الدكتوراه في الهندسية بدون خبرة عملية، ذلك لأن استفادة الوطن من الخبرة العملية للأول لا تقدر بثمن وهذه الحقيقة تقودنا إلى رصد ظاهرة نلمسها عند بعض العاملين في الحقول العملية كالبلديات، والإسكان، والمواصلات، والطرق، وهي اختيارهم لبعض المشكلات التي واجهتهم في الحقل، ثم مسارعتهم الخطى إلى جامعة خارج الحدود ليتقدموا لها بتلك المشكلات من أجل الحصول على الدكتوراه، وكأن الدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها؛ إذ تجد بعض هـؤلاء في مراكز مرموقة لن
[ ص: 41 ] تزيدها الدكتوراه سموقا.
هذا الحديث ليس موجها ضد الاستزادة من العلم والمعرفة، والوصول عن طريقهما إلى أعلى الدرجات، لكن المقصود منه هـو التأكيد على أهمية الخبرة العملية، وتفضيلها على درجة الدكتوراه بدون خبرة عملية في الحقول الهندسية، للذين سوف يمارسون المهنة على وجه الخصوص، مهما كان البريق الاجتماعي للشهادة؛ لأن المكان الطبيعي لحملة الدكتوراه هـو الجامعة، أو معهد البحوث، والحديث عن الدكتوراه يقودنا إلى المطالبة بتغيير مفهومها السائد في عالمنا العربي؛ لأنه أصبح مفهوما معوقا للعلم والتعليم وللتنمية ، ولا بد من إعادة صياغته، وربطه بفعالية إنتاجية محددة على خريطة المهام الوطنية وذلك لكي لا يصبح الحصول على درجة الدكتوراه هـدفا في حد ذاته، وحتى تقل الهالة الاجتماعية التي تحيط بهذه الدرجة.