فلسـفة البـدء
يسبق البدء في أي أمر، تحديد فلسفته التي يقوم عليها، وتوجهاته التي يرنو إليها، وأهدافه التي ينوي تحقيقها. ونحن المسلمين، نحتاج اليوم أكثر ما نحتاج، إلى عبق النبوة الأولى، في طيبة الطيبة، حيث نجد كيف كان المجتمع المسلم الأول حريصا على أن يصل إلى أعلى درجات التطور [ ص: 59 ] التقني بمقياس عصره، فمنح أولوية قصوى للصناعات الحربية، وركز عليها، وأغفل الصناعات الأخرى للمقتنيات الترفيهية. في ذلك المجتمع وعلى قمته، كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوجه، ويرشد، ويعلم، ضرب المثل الأعلى بنفسه، في الإعراض عن عالم الحاجات الترفيهية، إذ كان يقول لسامعيه، عندما يستغرب بعض أصحابه من إعراضه عن مقتنيات الترف -وهو القادر على امتلاك الدنيا، وما فيها لو أراد - كان يقول لهم: ( إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة ) ، ليذكرهم بنفسه قبل أنفسهم؛ حتى يتعظوا، وعندما يقترح بعض الصحابة سريرا للنبي العظيم، لينام عليه، يرفض، ويؤثر أن يظل على حاله، ينام على حصير، يترك أثرا في جنبه، ويدعوا الله: ( اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين ) .
تلك هـي فلسفة البدء الحضاري، أما الترف فهو طابع الختام الحضاري، وأمة تريد البدء لا يمكن أن تنطلق من عالم الحاجات، حيث قتلها الترف من حيث بدأت.
إن طريق النهوض الحضاري، الذي ترتجيه الأمة، يفرض عليها شروط لا بد من تحقيقها، ويحدد مسارات لا بد من السير فيها لإكمال المشوار المبتغى. فإن كان التسابق الاستهلاكي، واللهث خلف عالم الأشياء، هـو الطريق المرتجى، فإنه يقود بلا شك إلى إخلاد الأفراد إلى ترف، من شأنه أن يعوق عملية النهوض ذاتها، ولا يساعد على قيام قوة إنتاجية محلية، تعتمد على الإحلال المتصل، والإبدال المستمر للطاقة البشرية المستقدمة بطاقة بشرية وطنية. فالترف بطبعه يثبط الهمم عن التعلم والتدرب، ويهبط بالاستعداد الوطني في هـذه المجالات إلى أسفل الدرجات.
وإن كان الطريق المؤمل لنهضة شاملة وحقيقية، هـو ترسيخ الاعتماد على الذات، والمزاحمة على عالم الغد، بكل ما يحمله ذلك العالم من مفاجآت [ ص: 60 ] وتحديات، فإنه يفرض علينا الدعوة إلى تنمية تقنية نوعية، ترتكز على إعداد، وتدريب، وتأهيل الطاقة البشرية؛ لأن أي اتجاه للنهوض والتطور، لا يركز على الإنسان، وسوف يجد نفسه في دائرة مغلقة، يظل المجتمع بإنسانه داخلها دائما أسير عالم الأشياء، الذي يتجدد دوما، وتتجدد معه الحاجة إلى طاقة بشرية قادمة معه، ولن يخرج المجتمع من هـذه الدائرة المغلقة، إلا بموقف أخلاقي يتحدد في أمرين.
الأول ـ أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا.
الثاني ـ وأن تعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
كما هـو وارد في الأثر، مما يمكن أن نعتبره مبدءا للنهوض الحضاري، ونبراسا للتنمية الإنشائية المنتجة.
والاختيار بين الطريقين: طريق التسابق الاستهلاكي، وطريق البناء الحضاري، واضح ومحدد، ولا يحتاج إلى تفسير، ولهذا دعونا نسير عليه بتؤدة ورسوخ، ولنبدأ المشوار
في ظروف محدودية الإدراك التقني المتطور، بل والأساسي أيضا في كثير من بلداننا الإسلامية، وتزاحم الأولويات يشعر المشتغلون بالتنمية التقنية أنهم يعملون تحت ضغوط نفسية غاية في التعقد عندما يجدون أنفسهم ومجتمعهم معهم في مواجهة حضارية تقنية باسقة الزروع، ما تكاد تنتهي من دور تقني، حتى تنتقل إلى حال جديد، وحال مجتمعاتهم مازالت تفصله عنها عصور البخار، والكهرباء، والحسابات الآلية، هـذا إذا لم نقل: ثورة المعلومات ، وعالم الفضاء، في فجوة ذات ديناميكية معقدة، لم نصل بعد إلى فهم واضح لطبيعتها، وكيفية تجاوزها؛ في مثل هـذه الظروف يلجأ مخططوا التنمية إلى زيادة حجمها المرجو، زيادة كبيرة، على أمل اللحاق بركب الحضارة التقنية المسرع في خطاه، وفي إغلاق الفجوة التقنية التي تزداد مع الأيام اتساعا. [ ص: 61 ]
التالي
السابق