النظرة الاجتماعية للعمل المهني
إن الرحلة الشاقة الطويلة التي يجب أن تبدأها الأمة على طريق استنبات التقنية تعني أول ما تعني: تمهيد وإعداد التربة الصالحة للغرس والاستنبات قبل وضع البذور وسقيها ورعايتها لتنمو وتثمر.
وتهيئة التربة للغرس، تعني تهيئة المجتمع، لتقبل التقنية عند استنباتها، حتى لا تكون كالعضو الغريب الذي يزرع في الجسم، فيقاومه ويلفظه، بل لتصبح جزءا من تكوينه، يتعامل معها، ويستوعبها، ويطورها، بدلا من أن يكون مستهلكا لها، وزبونا لمنتوجاتها.
وإن أولى تلك الخطوات تغيير نظرة المجتمع إلى العمل، وقيمته الحضارية؛ لأن مجتمعاتنا؛ مازالت تنظر إلى العمل اليدوي التقني، والممارسة المهنية، نظرة وصلت عند بعض أفراده إلى درجة الاحتقار؛ مما دفع بجزء كبير من الطلاب، إلى الاتجاه إلى التعليم النظري ؛ لينتقلوا بعد حصولهم على [ ص: 69 ] الدرجة العلمية في تخصصاته، إلى المقاعد الوثيرة، خلف المكاتب الفارهة، في ظل أبهة وهمية للوظيفة، دون فعالية تذكر، أو جهد ملموس.
لماذا نجد رئيس جامعة في أمريكا مثلا يقوم بإصلاح سيارته في ورشته، ودهان سور منزله بيده، وتنسيق حديقته بذاته، في حين يأنف موظف في مجتمع العرب والمسلمين، من القيام بأبسط من ذلك من الأعمال اليدوية؟! سؤال ساذج؛ لأن الإجابة عليه واضحة في الفروق والفجوات الحضارية بين المجتمع الأمريكي والمجتمع العربي.
مجتمعاتنا ـ عموما ـ ليست بدعا في عدم تقدير قيمة العمل اليدوي؛ لأن تلك ظاهرة تشترك فيها مع غيرها، من مجتمعات العالم النامي ، خصوصا تلك التي أنعم الله عليها برزق رغد، ومصادر وفيرة، لكنها ستكون بدعا، إن لم تستدرك تفشي ظاهرة الركون إلى الدعة، وحب الترف، وكراهية العمل، حتى تنضب مواردها، وتتحدد مصادر الرزق فيها، فنجدها وقد أضحت عالة على غيرها، وعيا على نفسها.
إن تغيير النظرة الاجتماعية السلبية إلى الحرف والمهن، يتيح إعادة هـيكلة القوى العاملة من أبناء الأمة؛ ليأخذ العمل التقني مكانه الاجتماعي الصحيح. وتغير تلك النظرة سوف يزيل الهدر في التعليم، ويقلل من فاقده، الذي نشاهد دلائله في الإقبال المتزايد على التعليم الجامعي والنظري منه على وجه الخصوص، وحتى يتجه الطلاب إلى قنوات ومسارات أكثر فاعلية وجدوى للمجتمع، كالتعليم التقنين ومعاهد الحرف، والمهن التطبيقية.
وتغيير نظرتنا الاجتماعية للعمل، سوف توضح جديتنا، لتعويض فترات التخلف التقني المقفر، التي قاسينا منها وما نزال.
التالي
السابق