مراحل التدرج الحضاري
مرحلة التكديس
تتميز مرحلة التكديس الحضاري للأمة ـ أي أمة ـ بأنها ذات معدل بطيء [ ص: 95 ] للنمو، يصل إلى قيمة ظاهرية، تبدو العملية التنموية معها وكأنها لا تتحرك، مما يسبب ضغوطا لكثير من الأفراد فيستسلمون لليأس، وربما لاذوا بالفرار، ليعيشوا في أمة، تعيش مرحلة متقدمة.
وعلى الأمة أن تدرك، أن بطء النمو في هـذه المرحلة أمر طبيعي جدا، فهي مرحلة غرس لا جني، يجب أن تصبر عليها، وتتواصى بهذا الصبر، حتى يثبت الرجال، وراء القدوة الصابرة، الثابتة في مواقعها، غير المستعجلة ثمار جهادها، المتمثلة دائما بالقول المأثور الذي سبقت الإشارة إليه من قبل، ونعيد رصده للتذكير:
" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا "
فإذا كان هـذا الأثر هـو شعار مرحلة التكديس، فإن الأمة تستطيع أن تمر بهذه المرحلة من غير ضغوط نفسية مدمرة، ومعوقة لعمليات النمو ذاتها.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الضغط النفسي، في مرحلة التكديس، من أخطر الأمراض الحضارية، التي تصيب معظم شعوب العالم النامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث ،حيث يظن مثقفو هـذه الشعوب ـ وهم يرون الفجوة الزمانية كأنما تزداد اتساعا ـ أن لا أمل في اللحاق،. ويفقدون الثقة في أنفسهم، وتضطرب خطاهم على طريق الحضارة، ويفرون من الواجب، ليبحثوا لأنفسهم عن ملجأ حضاري، خدعهم بريقه، ويتركوا من خلفهم شعوبا تجد نفسها تزداد تخلفا بفرارهم عنها، فكلما أعدت الأمة صفوة من أبنائها لعمليات البناء، فقدتهم، فتخسر المال، وتخسر الزمن بخسارة الرجال.
لذا فإننا نود أن نؤكد مرة أخرى: أن معدل النمو البطيء، في مرحلة التكديس، لا يعني ضياع الجهد، وانما هـو " جهد مكنون " ، أو لنقل بلغة العلماء: إنها طاقة وضع ، وليست طاقة حركة ، يمكن للأمة استردادها كطاقة حركة، في الخطوات التالية لمرحلة التكديس. [ ص: 96 ]
مرحلة الاستيعاب
إذا تجاوزت الأمة التكديس بثبات، وصبر، وحزم، وإصرار، حيث تكون قد تكدست في وعائها الاجتماعي طاقات علمية، وتقنية، وروحية، وشحذت بذلك الفعالية الاجتماعية للإنسان شحذا كبيرا، إذا انتهت من هـذه المرحلة، التي تتميز بالبطء فإنها تقبل بذلك على مرحلة جديدة، تتميز بسرعة أكبر للنمو، هـي مرحلة الفهم، والاستيعاب. في هـذه المرحلة الجديدة، تبدأ الأمة في فهم العلاقات العضوية، بين الطاقات المكدسة في وعائها الاجتماعي، فتكشف لنفسها، وبنفسها ما تم اكتشافه في أمم أخرى لتصل إلى الجوهر، بين الركام المكدس، ويعطيها ذلك قدرات جديدة.
حيث سيكون انطلاقها من الجوهر، لا من الركام المكدس، وحيث تكون الأمة تعرفت على قوانين التحضر، لا على نتائجه فحسب، فتصبح عندها القدرة على الخطو بثقة في ميدان الحضارة، وهي غير منبهرة بالركام المكدس، وإنما عاشقة للجوهر، متفاعلة معه.
مرحلة الإبداع
قلنا: إن الضغوط النفسية تبدأ في الانقشاع عن ضمير الأمة، في مرحلة الاستيعاب والفهم، حيث تجد الأمة نفسها وجها لوجه، مع الينابيع الأساسية للإبداع الإنساني المعاصر، وتسرع حينئذ مسيرتها رويدا رويدا، فكلما حققت نصرا زادها ذلك ثقة ورسوخا، فإذا واصلت العمل مدركة لكل مقومات قيام الحضارة، ومتطلباتها، فإنها ستصل لا محالة، إلى مرحلة الإبداع، حيث يصبح معدل نموها أسيا متزايدا، ونعني بـ (النمو الأسي ) هـنا، أن يحدث تطور سريع، ومبدع في فترة زمنية قصيرة نسبيا، إذا قيست بمقدار التطور والنمو الذي حدث خلالها. والمتتبع لمسار الحضارة الغربية المعاصرة، يلحظ أن فترة الإبداع المادي، في هـذه الحضارة، تميزت بأن صاحب نموها الأسي المتزايد، آخر، حدث في العلاقات الاجتماعية، والتصورات الكلية للمجتمع، حدث هـذا التغيير بسرعة [ ص: 97 ] مذهلة، فاقت سرعة فكر قادة هـذه الحضارة وعلمائها وحكمائها، واليوم تعيد الحضارة الغربية حساباتها، لترى أين كان الخطأ في وجهتها؛ بل لقد بدأ ينظر كل إنسان اليوم في الغرب، في العلاقات الأساسية التي تربط ما حدث من تقدم في العلوم؛ بالمجتمع، وما يحمل من عقائد وقيم، وأصبحنا نرى أقساما علمية جديدة في معظم جامعات أمريكا، تدرس التفاعل بين التقدم العلمي والتقني، وبين المجتمع والدين.. في محاولة منهم لاستدراك الآثار الجانبية لهذا التقدم الأسي في الحياة المادية، على المجتمع وقيمه.
إن هـناك كثيرا من الناس، ممن يرون آثار الحضارة الغربية السيئة، أو يسمعون عنها، فيتنبئون متعالمين بهلاك هـذه الحضارة وحتمية فنائها. إن الآثار السيئة للحضارة الغربية هـي آثار طبيعية، برزت نتيجة لانحياز تلك الحضارة إلى الجانب المادي، وابتعادها عن القيم الروحية، التي ما زالت تظهر على استحياء في المجتمع الغربي. ووجود هـذه الآثار السيئة في الحضارة الغربية، لا يمنعنا من الاعتراف، بأن هـذه الحضارة تزخر بالحياة، قوية فتية، وحسب مفكروها فخرا، أنهم هـم الذين اكتشفوا آثارها السيئة، وبدءوا يحاولون تداركها لحماية المجتمع منها.
ويهمنا أن نأخذ العبرة مرة أخرى، من غيرنا، في محاولتنا التعرف على المنحنى الزمني للحضارة، ومعدل تغيره، والتزامنا بما تؤكده العقيدة الإسلامية من مسئولية الإنسان في خلافته على الأرض، لعمارتها بالعمل الصالح، والجهد المثمر، والعطاء المبدع، لنصل إلى توازن، بين التقدم المادي بكل ما يحمله من ترف، ورغد، ورفاهية، وبين المحافظة على مبادئ الحق وقيم الخير، بكل ما يترتب عليها من تضحيات وتقشف والتزام.
ولسائل أن يسأل: كيف يمكن لأمتنا أن تنحو منحى الأمم اليابانية والغربية في استيعاب حضارة العصر، والانطلاق بها إلى رحاب أوسع، من العطاء والإبداع بما يحقق خدمة الإنسانية، وقيمها الصالحة، ويعيد لأمتنا سالف [ ص: 98 ] مجدها، ويحقق لها مكانتها السامية، لتكون بحق وصدق خير أمة أخرجت للناس؟!
باختصار نقول:
إننا في محاولة تدريب مجتمعاتنا الناشئة تقنيا، لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار المسار التاريخي لتطور العلوم والتقنية، في الغرب واليابان ، فالأمة الجادة تستطيع أن تختصر 400 عام من تاريخ التطور العلمي والتقني للعالم الغربي إلى 40 عاما، أو أقل، لكنها لا يمكن أن تستسيغ الحضارة التقنية المعاصرة دفعة واحدة، مهما أوتيت من مال.
قد أخذت الحضارة الغربية أربعمائة عام لتصل بتقنيتها إلى حالتها الحالية، وحققت ذلك من خلال الإصرار على تزاوج العلم والحرفة.
ونحن يمكننا أن نختصر هـذه المدة إلى عشرها، أو أقل، شريطة أن نلتزم بتزاوج العلم والحرفة زواج تأبيديا، وأن نتبصر بالتتابع الزمني، في عملية تدريب الأمة على الحرف والتقنيات المختلفة.
إننا نستطيع أن نسقط عمر الحضارة العلمية والتقنية المعاصرة على عمر الإنسان في أمتنا فنبدأ معه منذ الطفولة، نعلمه مثلا كيف تنتقل الحركة بالتروس والسيور؟ وكيف نصل الأشياء بعضها ببعض؟ أي: نعلمه نظرية الآلات مبسطة، حسب إدراكه وسنه، متطورين معه كما تطورت الحضارة في طريقها الطويل.
علينا أن نغرق مدارسنا في جميع مراحل الدراسة بنماذج علمية، وألعاب تقنية، ونفسح المجال أمام أطفالنا وطلابنا لكي يقضوا وقتا مع هـذه النماذج والألعاب، ليتدربوا عليها، ويلتصقوا بها، فيعشقوا العمل المهني من الصغر، ليكبر معهم، ويكبروا معه، ونكون بذلك قد وضعنا الأساس السليم والقوي، لقيام صناعة وطنية، كما أننا نزيل عن أنفسنا عناء الاعتماد على الغير من القادمين من خارج الحدود، فنعين مجتمعنا على القليل من [ ص: 99 ] استيراد العمالة من الخارج فنحميه بذلك من مشكلاتها، وتبعاتها.
إن الوصول بالإنسان العربي والمسلم ـ طفلا وشابا ـ إلى المستوى المطلوب منذ نشأته، ودخل مدرسته، وفي المنزل، يحتاج إلى إعادة نظر جذرية في مناهج التعليم، وطرق تدريسها، كما يحتاج إلى إنشاء نوادي للعلوم في المدارس والجامعات يلتحق بها الطالب بغض النظر عن تخصصه الدراسي.
ولكن هـذا يستدعي تطوير أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وبرامجنا التعليمية. كما أن الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف، لبناء أجهزة متمكنة متخصصة، تعنى بهذا النوع من التعليم الحرفي للناس عامة، ومن رغب من خاصتهم.
التالي
السابق