الركيزة السادسة: حماية المنجزات الحضارية للأمة
منجزات الحضارة هـي ثمار العمل الدائب، والجهد المضني، والتضحية الغالية، من الأمة جميعا، وحماية منجزات الحضارة، تعني أول ما تعني: أن المؤسسات الحضارية متطورة في عملها، متقدمة في نظمها، حركية في إنجازاتها.
ولعلنا نتفق على أن قدرة الأمة على حماية نفسها، مما عرف بأمراض الحضارة، إبان تلقيها للعملية الحضارية، وفي مرحلة إقلاعها الحضاري أمر مهم وحيوي، وجزء لا يتجزأ من الإعداد الحضاري، والتواكب الواقعي مع الحضارة. وواقع أمم الحضارة يعج بمختلف المتناقضات، والعلل الإنسانية، والفكرية، والاجتماعية، والسلوكية، التي لا تخفي على أحد،. كما أن شيوع مذاهب النفعية، والتبرير فيها، ونبذ الضوابط، والخروج على الأعراف، والنظم، والمبادئ، والقيم المحلية، والعالمية [ ص: 120 ] أصبحت أمورا لا يقبلها عاقل.
إن العمل على حماية المؤسسات الحضارية في أمتنا، إنما يستهدف التأكيد على عصمة المنطلق، واستقامة الدرب، وانضباط الخط، بما يتناغم مع إيحاءات عقيدتنا السمحة، ومعطيات ديننا العالمي الحضاري، الخالد الخاتم، وهذه الحماية لها شقان: ذاتي وخارجي..
الشق الذاتي
ونعني به أن يتسم الفرد المسلم بأعلى سمات الحرص، واليقظة والتبصر؛ حتى يحمي مجتمعه، ويحرس المنجزات الحضارية لأمته، وحتى يظل التجاوب الواعي منه لكل ما يمر به مجتمعه من تحولات وتغيرات، ذا أثر متجدد، ومردود فعال، يفرض حول المجتمع سياجا من الضمانات، لحماية قيمه الصالحة، من الذبول والزوال.
إن هـذا الشق مطلوب لحماية المنجزات الحضارية من الأمراض التي تصيب الحضارات، عندما يصاب المجتمع بالغفلة والوهن. ويركن إلى الترف والدعة، وينسى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحيط به ملذاته وأهواؤه، وتصدأ نفسه فيصبح عالة على غيره من الأمم: " زبونا " يأكل ما يزرعون، ويلبس ما ينسجون، ويستهلك ما يصنعون.. ثم هـو مطلوب لديمومة التعديل في النظم، في إطار المبادئ والقيم، وفي نطاق الوقاية من هـذه الأمراض الحضارية، فلا يسمح مثلا لنظامه الاقتصادي بأن يوجد إنسان مترف، وبجواره فقير معدم، أو أن يغدوا الفرد " ترسا " في الآلة، أو يتحول إلى آلة صماء لا رأي له، ولا مشورة، أو أن يكون نظامه الاجتماعي متفككا بحيث تنتفي منه روح الأخوة، وتنعدم فيه روح الأسرة، أو أن يعمل نظامه الثقافي على تبلد الفكر، وركود المعرفة، فإن واحدا من هـذه الأمراض يكفي لإصابة المجتمع بالعجز عن حماية ما أنجزه وحققه، ومن ثم فلا بد من أن تكون نظم الحضارة نظما فعالة، قائمة على ديمومة الرقابة الذاتية لنفسها ضد الأمراض الحضارية التي تصيبها من داخلها، وخاصة التي تتصل [ ص: 121 ] بتحويلات المجتمع، من التوازن إلى الخلل، ومن الاستقامة إلى العوج، ومن الفطرة إلى الجنوح، ومن الروح إلى المادة، ومن الواجب إلى النفعية، ومن عبادة الله إلى عبادة غيره، وكلها علل فطن لها المجتمع الغربي، فغدا الآن يسعى إلى طب نفسه منها، وإنقاذ حضارته من أوضارها، عن طريق إعادة النظر في أسس هـذه الحضارة وقاعدتها، والنظم الحاكمة لها، في محاولة لإعادة وصلها بعلوم القيم والأخلاق، والهندسة الاجتماعية والإنسانية.
وهذا في الواقع، أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا ولهم.
أما بالنسبة لهم، فلأنهم قوم وضعوا أيديهم على بعض أمراض الحضارة، وحاولوا أن يبحثوا لها عن علاج، وأن يتعرفوا على أثر الروح وجودا أو عدما، وأن يدركوا مفعولها في مسيرة البشر الحياتية والحضارية، كوقاية وبلسم وشفاء، وري يلطف من هـجير المادة وجفافها..
وأما بالنسبة لنا، فمن حيث إننا نسعى جاهدين لنطل على مشارف دورة حضارية جديدة، ينبغي في سعينا هـذا، أن نضع في اعتبارنا، كيف نتوقى من البداية هـذه العلل والأدواء الحضارية، حتى لا نتوحل في عقابيلها، ونصاب بجراثيمها، ثم نذهب ونبحث عن العلاج حالما يستعصي، ولا يكون.
ومنهج الوقاية بين أيدينا ـ بحمد الله ـ ميسور مذخور، يكمن فيما لدينا من خلايا البقاء، إن الحضارة، تبقى ما بقي الإنسان بهويته، ومشخصاته، وخطوطها المتوازنة في روحه وبدنه، في دينه وتدينه، في أشواق روحه، وحاجات بدنه، في توجهاته وتطبيقاته، في مفهوماته ومدركاته، ووسائله وغاياته، في بواعثه ومقاصده، في ضميره وسلوكه، في شعوره ونزوعه، وحركته ونشاطه، في مسيرته وترداده بين سنن النفس، وسنن الكون، في عبوديته لربه، وتسخيره لكونه في رغبته في الله ورهبته منه، ثم في التوازن الشامل في مجال التوجيه والمعرفة، بين خطوط الوحي، والكون، والعقل معا، والعمل للدنيا والآخرة جميعا. [ ص: 122 ]
الشق الخارجي
إن هـذا الشق لحماية المنجزات الحضارية للأمة، يلعب دورا مهما، في درء الأخطار القادمة من وراء الحدود بجميع أشكالها، وفي منعها من غزونا، والتسلل إلينا من خلف الثغور.
وهذا أمر يجب أن يعنى بالقدرة على بناء أنظمة منيعة، وأجهزة دفاع قوية، تذود عن حمى المنجزات الحضارية كلها: عسكريا، واجتماعيا، ونفسيا، وثقافيا، وتربويا، وسياسيا.. الخ..
وبناء الأجهزة على هـذا النحو، يحتاج إلى جهد متكامل، وبصيرة نافذة، ووعي عال، وفكر يقظ، فلا يكفي مثلا، أن يكون لدى الأمة جيش دفاع قوي، مجهز بأحدث الأسلحة والعتاد، في حين نظامها التعليمي لا يحمي الأمة من الغزو الفكري المضلل، ولا يعد الشباب لمواجهة أخطاره، ولا يبث فيهم روح الرجولة والإقدام، ولا ينشر بينهم القدرة على الصمود ببسالة، وعلى الجهاد ببطولة.
التالي
السابق