تمهيـد
جاءت الرسل وحيا من الله تعالى بجملة من التعاليم التي تهدي حياة الإنسان في تصوره للوجود، وفي تصريف سلوكه الفردي والجماعي، فبينت له حقيقة ما هـو كائن في عالم الغيب، وبينت ما ينبغي أن يكون من سيرة له في عالم الشهادة. وذلك هـو الدين الذي جاءت به الرسالات تترى، حتى انتهت بالرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام التي ختمت الرسالات، ومثلت الصورة النهائية الكاملة لها، حتى كان الدين هـو الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم على صيغة الحصر:
( إن الدين عند الله الإسلام ) [آل عمران:89 ].
وقد خوطب الإنسان بالدين لينفعل به في حياته انفعالا إراديا، فيصدق بما جاء به من بيان في شرح حقيقة الوجود، ومن ذلك يكون معتقده، ويجرى سلوكه على حسب ما جاءت به تعاليمه العملية، ومن ذلك يكون شرعه في واقع حياته. وهذا الانفعال بالدين تصديقا عقليا وسلوكا عمليا هـو التدين، على معنى أنه تحمل الدين واتخاذه شرعة ومنهاجا. فالدين إذن هـو التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف، والتدين هـو الكسب
[ ص: 27 ] الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم، وتكييف الحياة بحسبها في التصور والسلوك.
وبحسب هـذا التعريف فإن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هـو ذات التعاليم التي هـي شرع إلهي، والتدين هـو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما.
فالدين بما هـو هـدي إلهي، يتصف بالمثالية والكمال، فهو تعاليم يتمثل فيها الحق المطلق بناء على الكمال الإلهي في العلم الشامل بأحوال الوجود، والمحيط بمصلحة الإنسان في مختلف منقلبات حياته. كما أن الدين - والحديث عن الدين الإسلامي - حقيقة مصوغة لهدي لإنسان مطلقا عن مقيدات وجوده الزمانية والمكانية، فهي في أوامرها ونواهيها تخاطب بالتكليف الناس كلهم على اختلاف أوضاعهم الذاتية من التفرد والاجتماع، والقوة والضعف، والبداوة والتحضر، وعلى اختلاف مواقفهم في المكان والزمان. إنها حقيقة تكليفية عامة للناس، ليس فيها تخصيص عيني ولا ظرفي إلا مستثنيات نادرة منصوص على التخصيص فيها.
>[1] [ ص: 28 ]
وكما أن تعاليم الدين عامة للناس فهي كلية في ذاتها، تنزع منزع التقعيد العام في الهدي، ولا تقصد إلى ضبط الإرشاد في جزئيات الأفعال الإنسانية في أنواعها التفصيلية، بله في أحادها العينية باستثناء بعض النوادر التي اتخذ منها في الغالب مقصد كلي عام، وقد كان ذلك ملحظا مهما للإمام الشاطبي إذ يقول: " تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم " .
>[2]
أما التدين فإنه بما هـو كسب إنساني في تكييف الحياة بتعاليم الدين يتصف بالمحدودية والنسبية؛ ذلك لأن الإنسان في كسبه الديني يغالب عوائق الواقع المادية، متمثلة في شهوات النفس من جهة، وفي عناد البيئة الكونية في الاستجابة لمطالبه من جهة أخرى، فإذا هـو يحقق في التدين قدرا من مطلوبات الدين، يتناسب مع ما يمضي فيه من الجهاد لترقية الذات، وتزكية المجتمع، واستثمار الكون اقترابا في ذلك من الله تعالى بما يبلغ من رضاه، ولكنه على أية حال لا يبلغ في تدينه تحقيق الدين الكامل، فإن طبيعته الذاتية وواقعه البيئي لا يسمحان ببلوغ تلك الدرجة، وقدره أن يكون كادحا إلى ربه بالتنامي في التدين حتى يلاقيه في
[ ص: 29 ] الدار الآخرة دون أن يبلغ من الدين مطلق الكمال.
>[3]
وليست المعاناة في التدين بناشئة عن مغالبة الواقع النفسي والمادي فحسب، ولكنها مترتبة أيضا على ما صيغ به الدين من الكلية التي لا تعتبر فيها مشخصات الأفعال العينية والظرفية، فذلك كان داعيا لكي يحقق الإنسان التدين بحسب التعاليم الكلية، من خلال ما يتخذ لنفسه من أوضاع جزئية مشخصة في الواقع، ينبغي أن تكون مندرجة في تحقيق المقصد الشرعي، ضمن التعاليم الكلية، بمعاناة من الاجتهاد الدائب الذي لا تضمن الطبيعة البشرية أن يكون قطعي الإصابة، بل هـو عرضة للخطأ، ولكن قدر الإنسان في التدين أن يكون كادحا إلى الله فيه كما هـو كادح في مغالبة العوائق النفسية والمادية.
فالتدين إذن هـو جهاد لإنجاز الدين، فيه معاناة يكابدها الإنسان عبر واقعه الذاتي والموضوعي، وفي ذلك الجهاد يصوغ من تصرفاته الفردية والاجتماعية والكونية، في مكابدته لواقع النفس والمجتمع والكون أفعالا جزئية غير منحصرة يحقق بها كليات الدين، ويقترب بها قدما من المثال الكامل، على قدر ما يصيب في اجتهاده، وما يخلص في جهاده، في حركة لا تستنفد أغراضها
[ ص: 30 ] بتحقيق الكمال، ولكن يتجدد زخمها ويشتد بما يحسن الإنسان من أساليب التدين في تزكية النفس وتعمير الأرض.
وللدين فقه خاص، لا يتحصل إلا به، وهو تلك القواعد والطرائق التي بها يقع فهم المراد الإلهي في هـدي الإنسان، كما جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة. فالله تعالى خاطب العباد بالتكليف بطريق الوحي، الذي كانت خاتمة حلقاته الوحي المحمدي. ولهذا الوحي المحمدي خصائص ومواصفات، بعضها يرجع إلى صفة الخاتمية، التي منها انبثقت صفة العموم والكلية، وبعضها يرجع إلى طبيعة اللسان العربي، الذي كان لسانا للوحي الخاتم. وتقتضي هـذه الخصائص والمواصفات آدابا معينة في فهم خطاب الله تعالى لعباده فما كان مقصودا صريحا للشريعة، وما كان غير صريح، وفيما كان منصوصا عليه أو غير منصوص عليه. وهي آداب تستمد قوامها من قانون لسان العرب، ومن المقاصد الكلية للشارع، ومن ظروف نزول الوحي، بناء في ذلك كله على قانون العقل في الإدراك. ومن ذلك كله يتكون فقه الدين، الذي به يتم فهم المراد الإلهي في خطاب الشريعة.
لكن فقه الدين ليس بكاف في تحقيق الغاية التي من أجلها نزل هـديا للناس؛ إذ الغاية منه تكييف الحياة، في التصور والسلوك، في واقعها الزمني، في الاتجاه الذي يحقق الخلافة في الأرض،
[ ص: 31 ] وليس فهم التعاليم الدينية إلا المرحلة الضرورية، التي تسبق منطقيا تكييف الحياة، إلا أنها ليست بالضرورة مؤدية إليها باعتبار ذاتها، فقد يحصل فهم الدين، ولكن لا يحصل تطبيق الدين (أي التدين ) على وجه قويم يؤدي إلى الغرض من الدين؛ وذلك لأن التدين يستلزم هـو أيضا لكي يكون قويما فقها خاصا، هـو فقه التدين، كما أن فهم الدين يستلزم فقها خاصا هـو فقه الدين.
إن التعاليم الدينية هـي تعاليم مجردة كما ذكرناه آنفا، فهي تهدي أفعال الإنسان على مستوى نوعها المجرد عن عناصر التشخص، ولكن التدين يقتضي أن ينزل المكلف تلك التعاليم المجردة على أفعاله العينية، بمعطياتها الزمانية والمكانية، وبحيثياتها التشخيصية، وهو ما يستلزم جملة من الآداب التي تيسر ذلك التنزيل، وتجعل الفعل المشخص منفعلا بالمبدأ الكلي المجرد، وتلك الآداب هـي التي نعنيها بفقه التدين.
وقد يبدو لبعضهم أنه إذا حصل فقه الدين وإيمان به، كان ذلك كافيا بذاته لأن ينصلح به واقع الأفعال الإنسانية بصفة آلية، فلا تكون لذلك حاجة لفقه غير فقه الدين، ولا يخلو خطاب بعض الدعاة اليوم من أثر لهذه الوجهة، في دعوتهم إلى الإصلاح الديني، إلا أن التعمق في فهم طبيعة الحياة الإنسانية، وعلاقتها بالمبادئ والمثل، والتعمق في فهم آداب الفقه الإسلامي في عهود
[ ص: 32 ] نضجه وازدهاره، يفضي إلى الاقتناع بأن إنجاز التدين في الواقع الزمني يحتاج إلى فقه خاص زائد عن فقه الدين، وهو فقه التدين.
ولعل هـذا الفقه أشد تعقيدا، وأكثر صعوبة من فقه الدين؛ لأن هـذا الأخير يكون دائرا على العلاقة بين مصدر الدين قرآنا وحديثا، وهو منضبط في خصائصه ومواصفاته وبين العقل المدرك، وهو منضبط في قانونه الإدراكي. أما فقه التدين فإنه يدور على العلاقة بين عناصر ثلاثة، تضم إلى جانب العنصرين السابقين عنصر واقع الحياة الإنسانية، وهو عنصر شديد التعقيد في أسبابه وتفاعلاته وملابساته، فكان بذلك متأبيا عن الانضباط المنطقي المطرد، نزاعا إلى الخصوصيات المستأنفة بحسب تغاير الظروف والأفعال. وهذا ما يجعل فقه التدين أقل حظا في الاطراد المنضبط من فقه الدين، وبذلك يكون أكثر صعوبة وتعقيدا.
وقد أشار
الإمام الشاطبي إلى هـذا المعنى فيما سماه بالاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وقال فيه: إنه اجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، كما قال فيه: إن " معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله... ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره
[ ص: 33 ] ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هـو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة، إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب " .
>[4]
والاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، كما شرحه الشاطبي، هـو ما يساوي تقريبا فقه التدين؛ إذ هـو الذي يكون به تكييف الأفعال والأحداث الجزئية على حسب مقتضيات أحكام الدين الكلية. وقد بين
الشاطبي أيضا أهمية هـذا الفقه في حركة الحياة الإنسانية، وفق التعاليم الإسلامية فقال: " لو فرض ارتفاع هـذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هـذه المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام " .
>[5]
ولو عدنا إلى التراث الفقهي الإسلامي، في عهد ازدهاره خاصة، لوجدنا فيه صورة ناضجة لفقه التدين؛ إذ المذاهب الفقهية
[ ص: 34 ] في نشأتها وفي تطورها، ليست إلا اجتهادات الأئمة في تنزيل الدين على واقع الحياة، بما تقتضيه الظروف المختلفة، زمانا ومكانا، ولذلك تلونت هـذه المذاهب بألوان الأوضاع البشرية في المناطق التي نشأت فيها، رغم أنها تقوم كلها على تنزيل الأوامر الإلهية الثابتة. ويظهر هـذا المعنى جليا في كتب الفقه للأئمة المجتهدين، وكتب تلاميذهم، قبل القرن الرابع خاصة، كما يظهر أيضا في كتب النوازل والفتاوى، حيث تنطق هـذه الكتب بالكيفية التي جرت عليها الملاءمة بين أحكام الدين، وبين أحداث الحياة.
وعلى مستوى التنظير لفقه التدين زخر الأدب الأصولي الفقهي بجهود وضيئة، في ضبط قواعد لهذا الفقه، يعتبرها الفقيه عند تنزيله الأحكام على الواقع، موازية لتلك القواعد، التي يعتبرها عند فهمه للدين من أصوله. ولعل من أبرز الأبواب الأصولية التي كرست لفقه التدين هـو باب مقاصد الشريعة، الذي أصل البحث فيه وأنضجه الإمام الشاطبي في كتابه " الموافقات " ، ثم استأنف فيه التأصيل والإنضاج الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه " مقاصد الشريعة الإسلامية " .
ولا يخفى أن الفقه الإسلامي لم تدم جولة مده الحي طويلا، إذ سرعان ما آل أمره إلى التقليد، والاكتفاء بما اجتهد فيه كبار الأئمة في التنزيل، كما أن علم أصول الفقه تكاد تكون حركته الإنتاجية قد
[ ص: 35 ] توقفت مع
الإمام الشاطبي ، وهو ما كان سببا في ضعف فقه التدين عند المسلمين، إذ انحسر رافده التطبيقي المتمثل في الفقه المتنامي، كما انحسر رافده التنظيري المتمثل في الحركة التطورية لأصول الفقه. ودام ذلك في واقع الفكر الإسلامي زمنا طويلا، كان فيه قاصرا عن أن يصوغ من الأوامر الإلهية مشروعا واقعيا، يصوب حياة المسلمين إلى الوجهة الصحيحة في الاستخلاف والتعمير، وذلك بما فقد من الآداب في فقه التدين، الذي به يكون مثل ذلك العمل.
وفي هـذا العصر وجد المسلمون حياتهم تجري في كثير من مجالاتها على غير هـدي من الدين، بما كسبوا من تخلف حضاري أبعدهم بذاته عن الأخذ ببعض التعاليم، في جوانب من حياتهم ودفعهم بما أحدث فيهم من انهزام في الإرادة، إلى إحلال توجيهات من الثقافة الغربية، محل التوجيه الديني في جوانب أخرى، حتى أصبح سلوكهم الفردي والجماعي مخلوطا فيه الحق بالباطل، والباطل فيه أظهر، سواء في مجال التزكية للذات أو في مجال التعمير في الأرض.
وقد قامت الحركات الإصلاحية الدينية، تبشر بالعودة إلى قيومية التعاليم الدينية على سلوك المسلمين. وحققت نتائج هـامة في الإقناع بذلك؛ إذ حركت النفوس الكثيرة إلى أن تجعل من الدين
[ ص: 36 ] السلطان الهادي في كل عمل، وأصبح ذلك ظاهرة متنامية في العالم الإسلامي، متمثلة فيما اصطلح عليه بالصحوة الإسلامية.
ولكن لما رجع المصلحون، ومن استجاب إليهم، إلى ما به يكون استئناف الحياة الإسلامية وفق تعاليم الدين في ساحة الواقع الراهن لم يجدوا من أدب التنزيل، وفقه التدين، ما يحقق الإصلاح المنشود، لا على مستوى القواعد والمناهج في ذاتها، بل على مستوى الإمكانية الفكرية للوعي بها، واستئناف إنتاجها أيضا. ولا غرو فإن سند هـذا الفقه انقطع في الأمة أو كاد طيلة عهود الانحطاط، التي تعطل فيها الاجتهاد.
وقد كان هـذا الأمر بمنزلة الإحباط المضمر، الذي شعب مواقف المنخرطين في الصحوة لإسلامية، شعبا مترددة بين اليأس والرجاء، وبين السطحية المتعجلة، والوعي المتأني، إلى ما يقارب التردد. فسقط بعضهم في الرفض لواقع المسلمين، والانسحاب منه، وحلموا ببناء مستقل لواقع جديد، خالص من أدران الجهالة، متمحض لتنزيل الدين في صورة الكمال. واستيسر آخرون الحل، فرأوا أنه لو أزيلت عقابات سياسية، لأمكن تحويل المجتمع الإسلامي طرفة عين، إلى مجتمع متدين، على درجة عالية من التدين. وأدرك آخرون ما عليه الأمر من تعقيد، يستلزم فقها عميقا شاملا في تنزيل الدين على واقع المسلمين،
[ ص: 37 ] ولكن إنجاز هـذا الفقه لم يتم بعد، ولعل طلائعه الأولى بدأت تلوح في جهاد بعض الحركات الإسلامية.
والمتأمل في واقع المسلمين اليوم يجده واقعا في غاية التعقيد، فقد اختلط فيه الحق بالباطل، في صورة التدين التي هـو عليها، إذ استصحب جوانب من الحياة خاضعة لسلطان الدين، ولكن جوانب أخرى غشيتها الجهالة، فندت عن ذلك السلطان، واندرجت تحت سلطان الهوى، أو سلطان الثقافات الوافدة، الشديدة الوطأة بثقل الحضارة الغربية الغالبة، وقد تشابكت في إنتاج هـذا الواقع عوامل نفسية واجتماعية وحضارية وتاريخية متداخلة، صنعت كلها ظرف تشديد في التأبي على إرادة الإصلاح.
وبالنظر إلى هـذا التشابك المعقد في واقع المسلمين، فإن الواجب يبدو أكيدا إلى نفير المفكرين الإسلاميين، للنظر المجدد في فقه منهجي، يهدف إلى المساعدة على تخليص الواقع الإسلامي في مجالاته المختلفة، من مظاهر الزيغ عن السلطان الديني، ودفعه إلى وضع من التدين الشامل، يزكو به المجتمع، في سيرورته الخلافية في خطيها: ترقية الذات، وتعمير الأرض. وإن في الأدب الفقهي والأصولي للمسلمين لمصدرا ثرا، في استلهام هـذا الفقه المنهجي للتدين، بل هـو في الحقيقة ليس إلا نفسا مستجدا لذلك الأدب، يتجاوب مع مستجدات الواقع الراهن. كما
[ ص: 38 ] أن في الكسب الإنساني من العلوم المختلفة معينا على التقدم في هـذا العمل المأمول العظيم الشأن، وليست التجربة التي اكتسبها العاملون الإسلام فكرا وحركة خلال قرن مضى، بأقل أهمية من العاملين السابقين، في النهوض بهذا المشروع المطروح على الفكر الإسلامي.
وليس ما سأطرحه تاليا في هـذا البحث سوى إثارة لقضية فقه التدين، التي ظلت تشغل الذهن، وتشكل هـما من هـمومه، انعكس من التأمل في واقع الدعوة الإسلامية، فيما تلاقيه من عوامل النجاح وعوائقه، وهو هـم يسعى إلى أن يجد له متنفسا في حل نضيج، ولكن ضعف المنة في هـذا المجال، يجعله لا يظفر إلا بما يشبه الخواطر المثيرة، التي تفيد في إبراء الذمة، أكثر مما تفيد في الدفع إلى إنجاز هـذا المشروع الكبير، ولا شك أن فقهاء الصحوة الإسلامية، على وعي عميق بأهمية هـذا المشروع، وأن كثيرا منهم يتوفر على كفاءة عالية للنظر المستجد في فقه التدين، بل بعضهم قد شرع في ذلك عمليا، فهذه صيحة حادية للمضي في إنجاز هـذا الفقه وإنضاجه، فإن عليه يتوقف إلى حد كبير تغيير الواقع الإسلامي، نحو الاندراج المتنامي في سلطان الدين الحنيف.
وأحسب أن فقه التدين، بما هـو منهج لتنزيل الدين على الواقع، ينبغي أن يتأسس على محاور ثلاثة رئيسة هـي: الفهم، والصياغة، والإنجاز.
[ ص: 39 ]
أما الفهم، فهو فهم الدين، باعتباره تعاليم هـادية إلى الحق. وفهم الواقع الإسلامي، الذي يراد إصلاحه. فلما كان هـذا الفهم شرطا ضروريا للتدين وجب أن يؤصل فيه البحث من جهة كونه فهما لأجل التنزيل، وما يقتضيه ذلك من أسس للفهم ومن قواعد فيه، سواء فيما يتعلق بفهم تعاليم الدين من أصولها، أو بفهم واقع المسلمين في مكوناته المتشابكة وأبعاده المختلفة.
وأما الصياغة، فهي إعداد التعاليم الدينية في هـديها المطلق لتكون مشروعا مقدرا على قدر الواقع الزمني، الذي يراد إصلاحه، بحيث يكون مؤسسا على الهدي الديني، ومعتبرا فيه خصائص الواقع، حتى يكون قابلا للتنزل عليه، والفعل الإيجابي فيه، وذلك ما يشبه عمل المهندس المعماري، حينما يصوغ مشروعا معماريا يبنيه على أصول من حقيقة العلم الرياضي والفيزيائي، ويعتبر فيه خصائص البيئة التي سيقام فيها المشروع.
وأما الإنجاز، فهو التنزيل الفعلي للمشروع، الذي وقعت صياغته من حيث الكيفية التي يكون عليها ذلك التنزيل، والوسائل التي يتم بها، والمسالك التي ينبغي أن يسلكها، والآداب التي تضمن حسن الأداء، وتفضي بالتالي إلى أن يؤتي المشروع أكله، في اندراج السلوك الفردي والاجتماعي في الهدي الديني.
تلك محاور ثلاثة سنحاول فيما يلي شرحها بما يتيسر من معونة الهادي المبصر بالحق، ومن لم يهد الله فلا هـادي له.
[ ص: 40 ] الباب الأول فـي فقـه الفهـم
[ ص: 41 ] تمهيد
التدين كما ذكرنا سابقا، هـو انفعال الواقع الإنساني بالتعاليم الإسلامية انفعالا مقصودا، تحدثه إرادة الإنسان على سبيل التكليف الملزم. فعناصره المتفاعلة إذا هـي: واقع الحياة الإنسانية المتمثلة في تصوراته الذهنية، وفي سلوكه، ونظم حياته، وسعيه في تدبير معاشه. ومنظومة متكاملة من التعاليم الموجهة للتصور والسلوك معا وإرادة إنسانية تكيف التصور والسلوك بحسب تلك التعاليم.
ومن السنن الجارية في العمل الإرادي للإنسان، أن تقويم أي موضوع واقعي، مادي كان أو معنوي، بحسب مبدأ نظري، لا يتم على الوجه المطلوب، المفضي إلى الانفعال المبتغى، إلا إذا انبنى ذلك التقويم على العلم بطبيعة وخصائص الموضوع الواقعي، والمبدأ النظري معا، وكلما كان ذلك العلم دقيقا وشاملا، كلما كان انفعال الموضوع بالمبدأ أوفق وأكمل؛ وذلك لأن العلم بحقيقة كل منهما وخصائصه هـو الذي تبنى عليه الخطة العملية في المعالجة، وفيما يقع بمقتضى ذلك العلم المزاوجة بين المتناسب من العناصر في الطرفين فيتم الانفعال المطلوب.
وهذه السنة ماضية في قضية الحال، قضية التدين في طرفيها الرئيسين: تعاليم الدين،وواقع الإنسان. فلا حظ للتدين في أن يكون قويما مصلحا للإنسان، إلا إذا انبنى على فهم عميق لتعاليم الدين من جهة. ولواقع الإنسان من جهة أخرى؛ وذلك لأن هـذا
[ ص: 42 ] الفهم هـو الذي سيكون أساسا للخطة التي تعالج واقع الإنسان ليتكيف بالتعاليم الدينية. ومثال ذلك أن من التعاليم الإسلامية أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم في شئون الحكم، فالتدين بهذا الأمر الإلهي يقتضي أولا: فهم حقيقة الشورى المطلوبة، وتحديد عناصرها وأبعادها، ثم يقتضي ثانيا: فهم واقع المسلمين من حيث وضعهم الاجتماعي، وحظهم من البداوة والتحضر، ومن الأمية والتعلم، ومن التقارب والتفرق في المنازل. وعلى ضوء ذلك كله يقع ضبط الشكل الملائم للتدين بواجب الشورى، ولو فهمت الشورى على غير حقيقتها، أو أهملت بعض عناصر الواقع في وضع المسلمين، لجرى التدين بالشورى على نحو لا يؤدي إلى المصلحة المقصودة منها.
وفهم الدين هـو الأصل في التدين، وعليه يتوقف إنجازه، ولذلك كان ركنا قائما بنفسه، له فقهه الخاص به،وقد أفاض الأصوليون في بيانه وتبويبه وتنظيره، حتى غدا منضبط القواعد أو يكاد. ولما كان الدين محررا في أصول ثابتة هـي القرآن والحديث، وكلاهما يختص بخصائص، ويتصف بصفات، من حيث حملهما لتعاليمه، كما أن الدين غايته الفعل في الواقع، لإجرائه على ما يحقق المصلحة، فإن ذلك يقتضي أن يكون فهم المراد الإلهي بأوامره ونواهيه مبنيا على أساسين اثنين: أولهما خصائص الأصول في الدلالة على الأوامر والنواهي، وثانيهما اعتبار الغاية التطبيقية فيهما. وكلما اختل في الفهم أحد هـذين الأساسين، أو كلاهما أدى ذلك إلى الخطأ في إدراك المراد
[ ص: 43 ] الإلهي من تعاليمه، فصير إلى أفهام غريبة عن الأصول، التي يزعم أنها أخذت منها، أو غريبة عن الواقع الذي يزعم أنها لغاية إصلاحه، أو غريبة عنهما معا، فلا يحصل بها لذلك تدين.
ولسنا في هـذا الباب سنعمد إلى بحث تفصيلي، في القواعد الجزئية لفهم الدين من أصوله، على نحو ما بينته كتب أصول الفقه، ولا إلى بحث تفصيلي في واقع المسلمين اليوم، من حيث ذاته ومن حيث محيطه العالمي، ولكننا تناسبا مع الغرض من هـذا البحث، سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الدين، وذلك من حيث يراد لحقائقه أن تغشى الواقع لتصويبه؛ لا من حيث البحث النظري المجرد الذي قد يقوم به من لا هـم له في التطبيق، من مختلف الدارسين ولو من غير المسلمين. كما سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الواقع الإسلامي، من حيث يراد أن ينزل عليه الدين ليصلحه، ويدفعه إلى تحقيق الخير. ولا شك أن هـذين الاعتبارين اعتبار الفعل في فهم الدين، واعتبار الانفعال في فهم الواقع، سيكونان المحددين للمنهج الذي سنعتمده في هـذا الباب، ولنوعية النتائج التي نروم الوصول إليها. وبين يدي ذلك سنمهد بحديث عن مصدر الدين الذي هـو موضوع الفهم، لتحديد حقيقته والوقوف على خصائصه وطبيعته، وتمييزه، مما قد يظن مصدرا للدين،وهو في الحقيقة ليس كذلك، فذلك منطلق ضروري لضبط أسس الفهم وضوابطه.
[ ص: 44 ]