2- التجربة التاريخية في فهم الواقع
كان جيل الصحابة رضي الله عنهم ، وجيل التابعين من بعدهم، هـما الجيلان المؤسسان للواقع الإسلامي الأول، فقد بنوا هـذا الواقع بناء مباشرا بأيديهم، بما مارسوا من الفتوح، وبما أسسوا من هـياكل الإدارة والحكم، وبما باشروا من نشر الدعوة الدينية في كل الأرض التي دخلها الإسلام، فكان لهم بذلك كله فقه شامل بواقع المسلمين، الذي بنته أيديهم، وكان ذلك الفقه أساسا لاجتهاداتهم في فقه الدين وتنزيله، كما بدا جليا في اجتهادات
عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأمثالهما من فقهاء الصحابة والتابعين.
ثم جاء بعدهم جيل المدارس الفقهية والعقدية في القرن الثاني والثالث، فكان أئمة الفقه المؤسسون لهذه المدارس يتقدمون في
[ ص: 128 ] إرساء مبادئهم الفقهية أصولا وفروعا بقدر ما يتبينون من أوضاع المسلمين الواقعية، في عادتهم وأعرافهم ومستجدات ما حدث من مشاكلهم، لما انقلبت حياتهم من الجاهلية بوجوهها المختلفة إلى الإسلام.
لقد كان
الإمام أبو حنيفة يعيش حياة السوق في
العراق ، بل كان يتعاطى بنفسه التجارة. ومما تثمره التجارة من فقه واقعي علما بطبائع الناس، وأحوال المعاملات، كان يجتهد في فقه الدين كما كان إلى جانب ذلك يجتهد في الشطر الأول من حياته على الأخص في تبين الواقع الثقافي والعقدي في المجتمع الإسلامي، بما كان يشد لأجله الرحال في مجادلة الفرق المختلفة، وأهل الأديان في
البصرة على وجه الخصوص، وهي ملتقى الثقافات والفرق والأديان
>[1]
ولم يكن هـذا التفقه في الواقع أمرا عارضا أو شأنا عفويا عند الإمام أبي حنيفة، بل كان مبدأ ثابتا لديه، يعتبره أساسا من أسس الاجتهاد، يعلمه لتلاميذه من بين ما يعلمهم من أصول التفقه، وهو يبدو في وصيته لتلميذه
أبي يوسف ، وهو يتجه إلى البصرة ليعلم الناس، حيث قال له: " إذا دخلت البصرة استقبلك الناس، وزاروك وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منزلته، وأكرم أهل الشرف وعظم أهل العلم، ووقر الشيوخ، ولاطف
[ ص: 129 ] الأحداث، وتقرب من العامة، ودار الفجار، واصحب الأخيار ولا تتهاون بسلطان "
>[2]
. وفي هـذه الوصية ما يشير إلى أن الفقيه لا يكون الفقيه الحق إلا متى انخرط في واقع الناس، بجميع فئاتهم، وفقه أحوالهم، في نفوسهم وتصرفاتهم، وقد كان
أبو يوسف مستوعبا لهذا المبدأ مبدأ فقه الواقع، وهو الذي أثمر به اجتهاداته الثرية وخاصة كتابه في الخراج.
وقد كان
الإمام مالك يرقب واقع المسلمين في
المدينة ، ويتعمق في فهمه، ليتخذ منه أصلا من أصول التشريع، وهو ما عرف بعمل أهل المدينة. كما كان
الإمام الشافعي ينطلق في اجتهاده الفقهي من فهم واقع الناس، في معاملاتهم وأعرافهم وعاداتهم، ولذلك كان له مذهبان، كما مرت الإشارة إليه. وعلى غرار هـؤلاء الأئمة كان المجتهدون من هـذا الجيل في فقههم للواقع، حتى كانت أدلة عدة من أدلة الأحكام تشتق من الواقع، مثل المصلحة المرسلة، والعرف، وعمل أهل المدينة.
وعلى هـذا النحو أيضا كان علماء العقيدة الكبار، فقد انطلقوا في الفقه الأكبر، من رصد دقيق لما كان يروج في الواقع الفكري والثقافي والعقدي، من آراء ومذاهب وتصورات، ثم قاموا باجتهاد معياري لإثبات العقيدة الإسلامية، وتزييف المقولات التي تعارضها
[ ص: 130 ] من المعتقدات الدينية، والآراء الفلسفية. وقد كانت الأئمة الكبار كلهم من علماء العقيدة يتصدون قبل بناء مذاهبهم العقدية إلى تمثل المذاهب والأديان، التي لها صلة قريبة أو بعيدة بساحة الفكر الإسلامي، وعرضها وتصنيفها في أصل بنيتها، وفي تسرباتها في الثقافة الإسلامية، ذلك ما يبدو جليا في كتاب
الأشعري (ت 324هـ ) مقالات الإسلاميين، وكتاب
الغزالي (ت 505هـ ) تهافت الفلاسفة، والملل والنحل
للشهرستاني (ت548هـ ) وغيرها كثير مما هـو في موضوعها نفسه، وهو ما يدل على رصد مستقص، وتحليل شامل للواقع الثقافي والعقدي في المجتمع الإسلامي.
وبعد الأجيال الأولى، جرى التاريخ الإسلامي بما هـو معلوم من انفصال، بين أهل العلم من رجال الفقه والعقيدة، وبين أهل الحكم والسياسية، ومن استفحال للاستبداد السياسي، الذي تجاوز قمع المعارضات السياسية، إلى قمع كل ما فيه مساس بشئون الحكم، من الرأي العلمي، المتعلق بشئون الاعتقاد، والمعاملات العامة. وقد كان هـذا أحد أهم العوامل في ضعف الصلة بين أهل الفكر الإسلامي، وبين واقع المسلمين، نشأ عنه زهد في هـذا الواقع سواء من حيث الانخراط فيه، أو من حيث دراسته وتحليله.
[ ص: 131 ]
وقد بدا ذلك الزهد، في العناية بالواقع جليا في نزعة التصوف، التي كادت تعم بعد إجازتها من قبل
الإمام الغزالي في القرن الخامس، حيث تروم هـذه النزعة الخلاص الفردي، بترويض النفس على العبادة بعيدا عن عالم الناس، وخضم حياتهم الواقعية، فكأن فيها إعلانا عن الاستقالة من واقع المسلمين العام، والانكفاء إلى عالم الذات، لممارسة الدين في رحابه: تريضا نفسيا، وإقبالا على الله، من خلال العبادة الفردية، بعيدا عن مكابدة الواقع الاجتماعي العريض.
وعلى هـذا النحو أيضا كانت سيرة علماء الفقه وأئمته، فقد ابتعدوا عن المشاكل الواقعية للحياة الإسلامية العامة، بدافع من التوجس من سطوة السلاطين من جهة، ومن خفوت الزخم الحضاري الحي، وسيرورة الحياة إلى نمط رتيب غير مثير من جهة أخرى، وعكفوا على ما بين أيديهم من موروث فقهي ثرى، يعملون فيه بالترتيب والشرح والتفصيل، صياغة في ذلك على مقتضى المنطق العقلي المجرد، وتضخيما للفقه التعبدي الخاص، الذي لا علاقة له بمجريات الأحداث الاجتماعية، وجرى ذلك كله في معزل عن الواقع، الذي أخضعت نوازله لما هـو مقرر قبل من الأحكام الفقهية، وانقطع بذلك أو كاد الاجتهاد في فهم الواقع في أسبابه وعلله، لينزل الدين عليه، بما تقتضيه مستأنفات أوضاعه كما كان الأمر في الأجيال الأولى.
[ ص: 132 ]
واقتفى هـذا الأثر علماء العقيدة، فعكفوا على مدونات السابقين، التي نشأت من التفاعل مع الواقع الثقافي، يعملون فيها بالترتيب والتنظيم، في غير اهتمام يذكر بمستجدات ما يتفاعل في الواقع الثقافي والعقدي، رصدا ودراسة وتقويما على نحو ما كان الأئمة القدامى يفعلون في انطلاق آرائهم العقدية من ملاحظة سيرورة العقيدة الإسلامية في واقع الناس، وما يعتورها من ثبات وصفاء، ومن دخائل أجنبية عنها تسعى بها إلى الانحراف.
وقد بدأ هـذا ا لنكوص من قبل ا لفكر الإسلامي عن فهم ا لواقع والتفاعل معه بوجه جلي، في القرن الخامس، ثم استشرى أمره بمرور الأيام باطراد إلى عصر النهضة الحديثة. إلا أن تاريخ الفكر في هـذه المدة الطويلة لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام، فقد وجد علماء شهدوا الحياة العامة للمسلمين، وانخرطوا فيها بعمق، واتخذوا من أحداثها مادة للدرس والتحليل، فكان لتلك السيرة مردود ثري على آرائهم ومؤلفاتهم، جعلتها تنتمي في طبيعتها إلى المأثور عن الأجيال الإسلامية الأولى، من علوم متأصلة على فهم الواقع، مما يبين بشكل جلي أن فهم الواقع عنصر أساسي في نضج التدين فهما وتنزيلا.
ولعل من أبرز هـذه النماذج
ابن حزم الظاهري (ت 456هـ ) الذي انخرط في الواقع السياسي والاجتماعي، وأصبح وزير الأمويين
بالأندلس ، كما عاين عن كثب الواقع الثقافي والعقدي، وتعمق في
[ ص: 133 ] درسه، وأثمر ذلك كله اجتهادا فقهيا ثريا، يتراءى في كتابه " المحلي " ، وفكرا عقديا حيا، يتراءى في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل " . ومنهم
العز بن عبد السلام (ت 660هـ ) الذي ساهم في الأحداث السياسية والاجتماعية
بمصر ، مقاومة لظلم السلاطين، وانتصارا للعامة من المسلمين، فتراءى ذلك في تنظيره الفقهي المتميز، الذي دونه في كتاب " القواعد " . ومنهم
الإمام ابن تيمية (ت 728هـ ) الذي خبر واقع المسلمين بالخوض في مختلف مجالاته
بالشام ومصر ، حيث خاض غمار السلم، كما خاض غمار الحرب في جهاد
التتار ، والذي رصد الواقع الثقافي، وتعمق في فهم ونقد المذاهب والملل والنحل المتسربة إليه والمتفاعلة فيه، وكان لذلك كله الأثر البين في اجتهاده الفقهي والعقدي المتصف بالحيوية والواقعية، كما يبدو في مصنفاته المختلفة. ومنهم
ابن خلدون (ت 808 هـ ) الذي وقف بالمعايشة والدرس على واقع المسلمين مغربا ومشرقا، كما لم يقف غيره من العلماء، وركب الأحداث السياسية والاجتماعية، وساهم في صنعها، من سفارته للحفصيين إلى
الأندلس ، إلى توليه المناصب المختلفة
بتونس ، إلى توليه القضاء
بمصر ، إلى وفادته إلى المغول بالشام، وكانت ثمرة ذلك كله رائعته الاجتماعية الفريدة مقدمة كتاب العبر. وتشهد هـذه النماذج كلها على أن التمرس بالواقع الإسلامي، والتعمق في دراسته وفهمه يثمر نضجا في فهم الدين، وفي معالجة مشاكل المسلمين بهدي من الدين.
[ ص: 134 ]
وقد آل أمر العلاقة بين الفكر الإسلامي، وبين واقع المسلمين في العصر الحديث إلى ذات الوضع، الذي كان انتهى إليه عهد الانحطاط، والذي سمته العامة كما ذكرناه الجفاء بين الفكر، وبين الواقع. فلما نشأت الصحوة الإسلامية الحديثة، منذ أواخر القرن الماضي، اجتهد المصلحون في وصل ما كاد ينقطع بينهما، وفي اتخاذ دراسة الواقع الإسلامي المتردي منطلقا لتوجيه الحياة وجهة التدين، وقد أخطأتها في عدة مجالات من حياة الفرد والجماعة.
ذاك ما فعل
جمال الدين الأفغاني حينما طوف بالعالم الإسلامي يختبر علله وأدواءه، ثم اقترح منهجه الإصلاحي السياسي، وما فعل
الإمام محمد عبده في درسه للعلل الاجتماعية، ثم اقتراح منهجه الإصلاحي الاجتماعي وما فعل
الإمام حسن البنا حينما خبر دخائل المجتمع المصري، ومن خلاله المجتمع الإسلامي، ثم اقترح منهجه الإصلاحي الشامل المتقوم أساسا بإصلاح عقدي ثقافي.
وكان من المنتظر بحسب تنامي الصحوة الإسلامية، أن يتقدم هـذا الوصل بين الفكر والواقع، في حلقات متتابعة من النضج، يفضي الأعم منها إلى الأخص، وتستخدم فيه الوسائل العلمية المساعدة على تحليل الواقع، وفهم ملابساته وأسبابه، تمهيدا في ذلك لتنزيل الدين عليه، حتى ينصلح بحسبه فيما زاغ منه عنه.
[ ص: 135 ]
ولكن عوامل عطلت حركة التقدم في هـذا الوصل، لعل من أهمها ما بلغه الواقع الإسلامي في ذاته من تعقد شديد. وما قوبلت به الصحوة الإسلامية من صد عنيف، ومن قمع وتنكيل، شغلها عن التطور الطبيعي في معالجة الواقع، ودفع بفصائل منها إلى نزعة مثالية كثيرا ما تئول إليها حركات الإصلاح لما تقابل بالتنكيل.
والحاصل اليوم أن الفكر الإسلامي عموما، والفكر الحركي منه خصوصا يواجه واقعا إسلاميا اختلط فيه الحق بالباطل، وحاد في كثير من وجوهه عن الهدي الديني، وهو يروم أن ينزع منه الباطل ويمحض فيه الحق، ويسعى إلى أن يطابقه بقيم الدين، حتى يتم فيه التدين. ولكن هـذا الفكر وإن مهد لذلك باجتهاد ثري في فهم الدين وتقرير حقائقه، التي غاب كثير منها، في عهود الانحطاط، فإن التحدي الكبير، الذي نرى أنه يواجهه الآن هـو الاجتهاد في فهم الواقع الإسلامي المعقد الخطوط. المتشابك الأسباب، حتى يعد حقيقة الدين في صياغة عملية تناسب العلل والأمراض، التي يشكو منها واقع المسلمين، وتنفذ إليها في مكامنها، التي كثيرا ما تكون خفية، لا تستبين إلا باجتهاد مضن لفهمها، فيكون بذلك المثاب إلى الدين، وتحقيق التدين الشامل. وما أبعد أن يكون الأمر كما يظن بعض العاملين المخلصين للإسلام، مختزلا في أن الاهتداء إلى حقيقة الدين كفيل وحده بحصول التدين، وإنما هـو قدر المجتهد في التدين أن يخوض جهادين: جهادا لفهم الدين
[ ص: 136 ] فهما صحيحا. وجهادا لفهم الواقع فهما صحيحا أيضا، كي يمكن تطويعه لحقيقة الدين.