الفصل الأول
حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي
تصدر حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي من فكرة "الحق الطبيعي"، حيث يؤكد علماء الفقه الدستوري الغربي على أن فكرة حقوق الإنسان تعد: الأصل المشترك الذي استقت منه المدارس الفلسفية في القرن الثامن عشر.. وهي وليدة "مدرسة الحق الطبيعي".. كما عرضها ودافع عنها
الفيلسوف لوك سنة 1690م، وصيغت أفكار لوك بتعابير حقوقية - فيما بعد - من قبل الفقيه الإنجليزي بلاكستون في أواسط القرن الثامن عشر
>[1] .
ويسعى الفكر السياسي الغربي الحديث لذلك إلى تنظير قواعد ومفاهيم مجردة لحقوق الإنسان، يرتكز إليها في الحد من سلطة الحاكم، وإقرار حقوق الأفراد، مستندا في هـذا المجال إلى ما يسمى "بالحقوق الطبيعية" للأفراد، والمستمدة من فكرة "القانون الطبيعي" الوضعي أو المرجع الأعلى للحقوق والواجبات
>[2]
. والذي يستنبط من الطبيعة، ويتوصل الإنسان إلى معرفته عن طريق العقل، الذي يقوم باستنباط التشريعات الكفيلة بصيانة الحقوق الفردية من القانون الطبيعي الثابت الأزلي الذي لا يتغير
>[3]
. ولقد أدت فكرة القانون الطبيعي إلى:
[ ص: 26 ] بناء منطوق نظري لتحديد أصول فطرية لبعض المراكز القانونية مثل "نظرية العقد الاجتماعي" وغيرها من النظريات التي اتجهت لتقرير حقوق أصلية للأفراد سابقة على قيام السلطة الحاكمة..وهي نظريات انتهت إلى فكرة "حقوق الإنسان"
>[4]
يتضح من ذلك أن حقوق الإنسان ترتكز على الحقوق الطبيعية، ولا يختلف في ذلك منظرو الاشتراكية ، الذين يختلفون فقط في عدم ربط الحقوق الإنسانية بالحرية الفردية. حيث يرى الفكر الرأسمالي أن هـناك تلازما حتميا بين فكرة الحقوق الطبيعية والفردية، ويرى الربط بين القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، بهدف إقرار قاعدة غربية واضحة وهي "حماية الحرية الفردية".
فحيث كان المجتمع، الوحدة التي ينطلق منها التحليل السياسي والتنظير الاجتماعي، كما لدى الإغريق.. لم تكن تعرف "الحقوق الطبيعية".. ومن جملة الأسباب لذلك: فقدان الاهتمام بالفردية، بالمعنى الذي يطلبه مفهوم "الحقوق الطبيعية". فحيث كان المجتمع يعتبر كالجسم الإنساني، كما لدى
أرسطو وأفلاطون ، فأية فردية تمنح للقلب أو للعين أو لليد.. ثم إن إمكانية التضارب بين مصلحة الفرد، الذي لم يصبح بعد فردا قائما بذاته يتمتع بحقوق طبيعية لا يمكن انتزاعها منه، ومصلحة المجموع لم تكن واردة بإلحاح محرج حينذاك
>[5]
أما حين أصبح "الفرد وحدة قائمة بذاتها، ذات حقوق لا يصح أن يعتدى عليها"، فإننا نصبح أمام المقدمة المنطقية لفكرة الحقوق الطبيعية
>[6]
.ولذلك فالحقوق الطبيعية عبارة عن:
[ ص: 27 ]
نص يعبر عن مرحلة هـامة وحاسمة في تطور الفردية، ويربطها ربطا وثيقا بالاجتماع والسياسة، وعلى الخصوص بكيفية الحد من سوء استخدام القوة السياسية
>[7]
وهذا يعني أن هـناك ترابطا منطقيا واضحا بين فكرة الحقوق الطبيعية، وفكرة الحرية الفردية، التي جعلها الفكر الغربي الرأسمالي إحدى دعامات الحكم الديموقراطي . فالمجتمع ينشأ، والدولة تقوم أساسا لصيانة وحماية الحقوق الفردية.
ولقد ظهر هـذا الترابط بسبب كون "الحقوق الطبيعية" مفهوما غامضا يتحدد من التنظير الاجتماعي، والواقع السياسي للمجتمع؛ ولأن البحث عن مدلول الحقوق الطبيعية يعتبر خطأ منهجيا وعلميا لدى بعضهم، حيث أكد
د. ملحم قربان : أن السؤال: ما هـي الحقوق الطبيعية؟ ليس بالسؤال المناسب؛ ذلك لأن نصوصها تعددت واختلفت، وهكذا يصبح التساؤل المناسب الأصح عنها، هـو: كيف فهمها مفكر معين مثل
هـوبس أو
لوك أو
روسو ؟ وما هـي المهمات التي كلفت بالقيام بها في نظامه السياسي؟ وهل نجحت بالقيام بهذه المهمات نظريا على الأقل، وماذا قصد أن يحقق باللجوء إليها؟
>[8]
من هـذا المنطلق يظهر أن الحقوق الطبيعية إنما هـي تصور ذهني مجرد، وليس بالضرورة أن تتمثل بواقع محسوس، وأن البحث عن ماهية الحقوق الطبيعية يستلزم النظر في واقع التنظير السياسي للمجتمع، وتكييفه لحقوق الإنسان، ومقاصده من ذلك. وبالنظر في المذهب الحر، نجد أن هـناك أسسا عامة لتحديد الحقوق بناء على مفهوم "الحقوق الطبيعية" منها:
[ ص: 28 ] أولا: إن الحقوق الطبيعية للأفراد سابقة للوجود السياسي، ولذلك تقع على الدولة مسئولية احترام الحقوق والحريات الفردية، والامتناع عن المساس بها.
ثانيا: إن علاج التناقض القائم بين السلطة والحرية، يحسم لصالح الحرية الفردية؛ وذلك لأن غاية الدولة حماية الحرية والمحافظة عليها.
ثالثا: يتضمن جعل الحرية قاعدة الوجود السياسي، تقييد سلطة الدولة ومنعها من التعسف بتقييد حرية الأفراد
>[9]
وقد دافع بعض مؤيدي المذهب الفردي الحر عن الموقف السلبي للدولة بقولهم: إن المذهب الحر يتفق والنظرية الحيوية في التطور، أو "مبدأ البقاء للأصلح"، الذي أثبته "
دارون ". فالوجود الطبيعي - كما يقولون - ما هـو إلا عملية من عمليات الصراع على البقاء للأصلح. والنتيجة الطبيعية لمثل هـذه العملية، هـي التقدم. ولما كان تدخل الدولة سوف يعرقل هـذا التقدم، لذا يجب على الأفراد أن يقرروا مصيرهم دون مساعدة من الحكومة أو سيطرتها
>[10]
كما نتج عن تقرير الحرية الفردية في الفكر الغربي، قيام المدرسة الاقتصادية الطبيعية، التي مثلت النواة لقيام النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على المبادرة الفردية، والحرية الاقتصادية، وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد، والاعتماد على "اليد الخفية" لتحقيق التوازن والاستقرار الداخلي.
[ ص: 29 ] ويلاحظ أيضا، ارتباط فكرة حقوق الإنسان الطبيعية بالعلمانية السياسية، التي سادت الفكر الأوروبي منذ مطلع القرن السابع عشر، فعندما أصبحت الطبيعة المرجع الأساسي لقياس الحقوق والواجبات في المجتمع، لم يعد للدين مجال يذكر في تفسير الظواهر المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي والسياسي
>[11]
. ولهذا عمد مفكرو الرأسمالية إلى استبعاد فكرة وجود قوانين إلهية تحدد حقوق الإنسان، وعملوا على أن يستبدلوا بالقانون الإلهي القانون الطبيعي المستند إلى العقل، مع أن فكرة القوانين الطبيعية عند نشأتها لدى الأوائل مثل
شيشرون في العصر الروماني القديم، تعود إلى وجود ذات عليا تضع هـذه القواعد القانونية، حيث يخلص شيشرون إلى أن: قانون الله، أو القانون الطبيعي، يجب أن يشمل الدولة وقوانينها. وهذا القانون الإلهي هـو الأسمى، وله السيادة على كل ما عداه من التصرفات البشرية والمنظمات الدنيوية
>[12]
لكن عقب الانفصال الذي ظهر منذ القرن السابع عشر بين الدين والدولة، جرى إغفال ذكر المصدر الإلهي لهذه القوانين، والرجوع بها إلى الطبيعة.
كما برزت فكرة حقوق الفرد مقابل الدولة، والتي أصبحت تعرف فيما بعد بحقوق الإنسان أثناء الثورة الأمريكية عام 1776م، وفي الثورة الفرنسية عام 1789م، واكتسبت الفكرة بعدا دوليا بعد الحرب العالمية الثانية في هـيئة الأمم المتحدة
>[13] [ ص: 30 ]
وتوالت المواثيق المؤكدة على ضرورة حفظ حقوق الإنسان، وحماية حريته من الطغيان والاستبداد، والتي أصبحت غاية الوجود السياسي. ونتيجة لما سبق ذكره من استناد فكرة حقوق الإنسان في الفكر الغربي على قاعدة "الحق الطبيعي" وعلى " العلمانية "، أن صارت المواثيق والدساتير الوطنية تجعل الإنسان مصدرا للحقوق في المجتمع، كامتداد لفكرة الحقوق الطبيعية، والقانون الطبيعي الوضعي، الذي جعل الإنسان غاية في حد ذاته.
وترتب على ذلك ظهور عدد من النظريات السياسية الدستورية لحماية الحقوق الشخصية الفردية، مثل نظرية " الفصل بين السلطات " التي هـدفت إلى الحد من تركز السلطة في يد الحاكم، والنظرية الديموقراطية التي جعلت الفرد محور اهتمامها، وركزت على حماية حقوقه الشخصية
>[14]
. مما جعل حقوق الإنسان المنصوص عليها في هـذه الدساتير والمواثيق تبنى على متغيرات مرتبطة بهياكل ثقافية واجتماعية وسياسية معينة، وتهدف إلى تعزيز الفكرة الغربية عن الحياة، بإرجاع قواعد الفكر إلى الطبيعة، وذلك بعد فصل الدين عن واقع الحياة في المجتمعات الغربية.
إن الغرض فيما سبق لمفهوم الحقوق الطبيعية في الفكر السياسي الغربي، يظهر تهافت هـذا المفهوم تنظيرا وواقعا. فمن حيث التنظير نجد أن جعل الحقوق الإنسانية تستند إلى الطبيعة والعقل، قد يؤدي إلى انتفاء الحقوق الإنسانية أصلا، بقيام حركة فكرية تنفي وجود حقوق الطبيعية ثابتة. ويؤكد هـذا وجود تيارات فكرية نادت بإرساء قاعدة البقاء للأصلح، كما فعلت الدارونية، والمدارس التي تركز على "السلوك الفطري" للإنسان، والتي تدعي أن بعض البشر عدوانيون بطبعهم، وبذلك لا توجد مساواة طبيعية تعطي كل إنسان نفس الحق. ومن هـذا يتضح أن ربط حقوق الإنسان
[ ص: 31 ] بالحقوق الطبيعية قد يترتب عليه فقدان الحقوق الإنسانية ابتداء عند المخالفة في ذلك.
كذلك فإنه يمكن بيان فساد التنظير للحقوق الطبيعية للإنسان - في كون الحقوق الطبيعية الأزلية - أمرا لا يمكن قياسه، والتأكد من وجوده عمليا بالعقل المجرد، حيث إن الإنسان اجتماعي بطبعه، وتحيط به العديد من المؤثرات، التي تصاغ من خلالها مفاهيمه وشخصيته، ولا يمكن إثبات وجود حقوق طبيعية أصلية أزلية بمعزل عن الوجود الاجتماعي في إطار الجماعة السياسية. ويظهر التناقض في الفكر الغربي، في المناداة بوجود حقوق طبيعية أزلية للإنسان، مع تقرير هـذا الفكر أنه ليست هـناك تشريعات أزلية، تنظم هـذه الحقوق، حيث يرى العديد منهم أن التشريع وليد التطور الاجتماعي المعبر عن رأي الجماعة، ويرى كذلك أن وجود القانون يرتبط بخصائص حضارية محددة، ويتطور بحسب حالة المجتمع من بدائية أو تقليدية أو غيرها. وكذلك لا ينسجم القول بوجود حقوق طبيعية إلا بإقرار وجود تشريع أزلي، ينظم هـذه الحقوق وهو ما يرفضه الفكر الغربي حتما.
أضف إلى ذلك، أنه بالنظر إلى الواقع نجد، أن الدستاتير والمواثيق الوضعية لم تتناول "تحديد الحقوق بشكل قانوني واضح، وإنما عمدت إلى تقرير الحرية والمساواة بأسلوب عاطفي أدبي"
>[15]
. مما يزيد من مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، أو عدم إقرارها في المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة العنصرية ضد الملونين، والتي تمارسها الدول الديموقراطية، التي تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة، التي يمارسها العديد من الدول الكبرى في العالم.
علاوة على أن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، والعهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966م،
[ ص: 32 ] لم تنص صراحة على الوسائل الكفيلة بضمان حقوق الإنسان، واكتفت بالنص على ضرورة صيانتها فقط. فعلى الرغم من إقرار الإعلان العالمي، والعهد الدولي لحقوق الإنسان المتعلقة بشخصه وبدنه، وحرية تفكيره، وعدم اعتقاله اعتقالا تعسفيا، وعدم تعذيبه أو حسبه بدون نص قانوني، إلا أن الإعلان الدولي "لم يحدد.. الوسائل الدولية لكفالة تمتع الإنسان بحقوقه وحرياته المقررة فيه"
>[16]
. وهذا ما يجعل حقوق الإنسان خاضعة لاعتبارات ذاتية، ترتبط بمصلحة الدولة أو مصلحة الحكام، دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية، المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات.
أضف إلى ذلك، أن الحماية التي كفلتها الدساتير الغربية، وغيرها من دساتير الدول النامية المقلدة لها، قد قيدت بالنصوص القانونية الوضعية، التي تنص عادة على عدم جواز الاعتقال أو الحبس، أو التجسس، إلا بحكم القانون. ولما كان القانون أصلا من وضع الحكام، فقد نجم عن ذلك - في كثير من الأحيان - فقدان الحقوق الإنسانية، وانتهاك كرامة الأفراد باسم القانون، وتقنين تلك الانتهاكات بوضعها في نصوص تشريعية، نحو: " قانون الطوارئ "، و " الأحكام العرفية "، و " المحاكم الاستثنائية "، وغيرها من الاستثناءات التي تصير في نهاية الأمر هـي الأصل في تقرير الحقوق الإنسانية. ولقد ترتب على ما سبق أن: يتقلص عدد المنتفعين عمليا في واقع الأمر من الألفاظ الرنانة الفخمة، التي تضمنتها هـذه الوثائق، وتصبح مزاياها وقفا على فئة محددة من القابضين على السلطان، تمارس الحكم بدكتاتورية متجبرة، تقمع أغلبية الشعب، وتصفي شركاءها في الحكم أولا بأول، ليحتكر الحقوق أقل عدد من الأفراد
>[17] [ ص: 33 ]