7- العبادة
والعبادة في الإسلام ليست الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج فقط.. بل إن كل نشاط يؤديه المؤمن يدخل في باب ( العبادة ) مادام يبتغي بهذا النشاط وجه الله.. ولقد سبق الحديث عن أن كل ما في هـذا الوجود خاضع لسنن ربانية صارمة لا تتخلف.. وقد اقتضت مشيئة الله سبحانه، أن تكون العبادة التي افترضها على عباده جزءا من تلك السنن، التي لا تستقيم حياتهم إلا بها، فقد ركب الله عز وجل جبلة الإنسان من مركبين اثنين هـما:
- الجسد، والنفس.
وأخضع كلا من هـذين المركبين لسنن ضرورية لا بد من مراعاتها حتى يصلح أمرهما.. فالجسد يحتاج إلى طعام وشراب ونوم وتزاوج، وحاجات أخرى عديدة حتى يستطيع المحافظة على حيويته ونشاطه، وحتى يستطيع التناسل والتكاثر للإبقاء على نوعه.. وهذه كلها سنن لازمة لوظائف الجسد، فإن أصابها أي اختلال، أصيب نظام الجسد بالاختلال والاضطراب.. وربما الموت والهلاك
وكذلك هـي النفس البشرية.. فهي تخضع لمجموعة من السنن التي لا غنى عنها، حتى تحيا هـذه النفس حياة سوية بعيدة عن الخوف والقلق والشقاء وشتى أنواع الاضطرابات النفسية.. وكما أن الإخلال بالسنن، التي يخضع لها الجسد يؤدي إلى اختلال وظائفه، فكذلك الإخلال بالسنن التي تخضع لها النفس البشرية يؤدي إلى اختلال أكيد في سلوكها، وفي استقرارها النفسي..
[ ص: 135 ] وقد حذر القرآن الكريم مرارا من الغفلة عن السنن التي تصلح أمر النفس؛ لأن هـذه الغفلة توقع المرء في الشقاء لا محالة.. ومن الآيات البليغة، التي دلت على ذلك قولـه تعالى:
( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) (الزخرف: 36) فالغفلة عن ذكر الله وعبادته، تفتح الباب للشيطان، لكي يوسوس في النفس، ويعكر عليها صفوها وهدوءها، ويوقعها تحت وطأة القلق والهم والحزن..
ومن ذلك أيضا قوله تعالى:
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) (طه: 134 – 136) ، فإن سنة الله هـذه تقتضي أن تصبح حياة الإنسان حافلة بالضنك والتعب والنصب، حين يغفل عن ذكر الله أو عن عبادته، وهذه سنة ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.
هذا وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى أن العبادات المختلفة.. من صلاة وصيام وذكر.. تؤدي بالنفس البشرية إلى السمو، وتترفع بها عن الدنايا، وترقى بها إلى مراتب الفلاح والنجاح، كما قـال تعالى:
( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت: 45) وقال كذلك:
( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) (الأعلى: 14 – 15 ) فالزكاة والذكر والصلاة وشتى العبادات.. سبل إلى الفلاح والسكينة وراحة البال.
***
ومن هـنا يظهر أن العبادات في الإسلام ليست مجرد شعائر، تقام للتقرب إلى الله فحسب، بل هـي أيضا سنن لازمة للكيان البشري، حتى يستكمل وظائفه على الوجه الأكمل، ودليل هـذا أن الكيان البشري سرعان ما يصاب
[ ص: 136 ] بالتفسخ والاضطراب إذا ما امتنع عن القيام بالعبادات المفروضة عليه.. وها نحن اليوم نرى أمراض النفس وقد تفشت بصورة مروعة في كثير من بلدان العالم، التي حادت عن منهج الله، وانقطعت عن العبادة.. حتى باتت الأمراض النفسية فيها تشكل أوبئة خطيرة تهددها بالفناء.
ولا غرابة في ذلك، فإن الإنسان حين يغفل عن عبادة ربه، فإنما هـو يغفل عن سنة أساسية، لا يمكن أن تستقر حياته إلا بها.. فكما أن الإنسان الذي يمتنع عن الطعام والشراب، لا يلبث أن تتدهور صحته وتخور قواه.. فكذلك الذين يمتنعون عن العبادة، فإن نفوسهم لا تلبث أن تضعف وتخور.. ثم تموت.. وإذا بهم
( أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ) (النحل: 21) حتى وإن قاموا وقعدوا، وتكلموا وتنفسوا، وظنوا أنهم من الأحياء.
وهكذا حال المؤمنين.. فحين يدرك المؤمن أن أعماله كلها عبادة، فإنه يصبح حريصا على التزام جانب الصواب من أموره كلها، بحيث توافق سنة الله التي سنها لعباده الصالحين.. وبهذا يكون المؤمن قد أدرك معنى الإحسان، الذي أشار إليه الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه حين سأله
جبريل عليه السلام عن ( الإحسان ) فقال:
( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) >[1] .