الفصل الثالث
واقعنا المعاصر
معالم في طريق الحل
( ليس بأمانيكم )
إن موضوع البحث في ( سنن الله في الخلق ) لم يلق حتى الآن الاهتمام اللائق به من قبل المفكرين الإسلاميين المعاصرين، وبخاصة منهم الذين ينتمون إلى الجماعات الإسلامية، التي تصدت لقيادة العمل الإسلامي، ووضعت نصب أعينها القيام بتغيير اجتماعي ونفسي متميز في المجتمعات الإسلامية، يهدف إلى نقل هـذه المجتمعات من حال الضعف والجهل والتخلف والبعد عن منهج الله، إلى حال القوة والسيادة والالتزام بشريعة الله.
ولقد أدى إغفال دور السنن في الجهد البشري، إلى جعل التكوين الفكري لهذه الجماعات أقرب إلى المثالية النظرية، منه إلى الواقعية العملية، وجعل غالبية الجماعات ( إن لم نقل كلها ) تدور في حلقات مفرغة، لا تدري كيف تخرج منها، فهي – من جهة – تحس بالأزمة التي تعيشها، ولكنها –من جهة أخرى– لم تتقن بعد كيفية التعامل مع هـذه الأزمة، للخروج منها بحل واقعي معقول وربما ساهم في تعقيد الأزمة، وترسيخ هـذا الوضع الغريب، أن معظم المناهج الفكرية التي سارت عليها الجماعات الإسلامية المعاصرة، عمدت إلى تناول القضايا بعقلية ذرائعية، تميل إلى منطق التبرير والاستسهال.. فما أسهل أن نتذرع [ ص: 165 ] بأسباب مختلفة لننفي عن أنفسنا مسئولية ما وقعنا فيه من أخطاء.. وما أيسر أن نرد النتائج المخيبة للأمل إلى قضاء الله وقدره.. وكأن مثل هـذا الرد يعفينا من المسئولية أمام الله عز وجل
وأما بذل الجهد في البحث الدءوب عن جذور الأزمة، ومعرفة أسبابها، وتحليل ملابساتها تحليلا علميا دقيقا، فليس هـذا كله من شأننا؟
ولعلنا – بما قدمناه في الفصول السابقة حول مفهوم (السنة، والمفاهيم الأخرى، التي عرضناها على ضوء هـذا المفهوم، نكون قد اقتربنا خطوة من نقطة البداية في تناول هـذه الأزمة.. ولا بأس أن نعود في هـذه الخاتمة، فنلخص أبرز النتائج التي خرجنا بها من البحث، والتي يمكن أن نعدها بمثابة معالم، تعيننا على فهم طبيعة الأزمة، وترشدنا في الوقت نفسه إلى الطريقة العملية لتجاوز العقبات، التي تحول دون حل هـذه الأزمة.. ونجمل هـذه المعالم فيما يلي:
1 – إن لهذا الكـون ربا، خلق كل ما في هـذا الكون من خلائق، وأخضعها جميعها لسنن (قوانين) تحكم كل صغيرة وكبيرة منها.
2 – وتتصف هـذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، بمجموعة من الصفات، التي تعطيها صبغة القانون الرياضي الصارم، فهي –من جهة– ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وهي من جهة ثانية – مطردة، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت شروطها وانتفت الموانع، التي تحول دون بلوغها غايتها، وهي – من جهة ثالثة – أحادية لا تقبل التعدد، أي أن لكل أمر في هـذا الوجود سنة مخصوصة، لا يتم إلا من خلالها ولا يمكن الوصول إليه بغيرها من السنن.
3 – وسنن الله في الخلق تسري على كل شيء في هـذا الوجود من غير تمييز، سواء أكان هـذا الشيء ماديا أم معنويا، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق هـذا الوجود لسنن الله هـذه، شئنا ذلك أم أبينا، [ ص: 166 ] وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هـذه السنن، لكي نتمكن من تسخيرها فيما ينفعنا، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا يأتي بخير أبدا، بل فيه الخسارة الأكيدة دون ريب.
4 – وإن أي عمل نقوم به يعتمد على سنة أو أكثر من السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه، يقتضي ضرورة معرفة تلك السنة ( أو السنن ) قبل الشروع في العمل، فإذا ما عرفنا السنة، وجب علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لها، إن كنا حقا نريد إنجاز العمل المطلوب.
5 – فإذا ما فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هـذا الفشل يعني وقوع خلل ما في الخطة، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل هـذا في ثلاثة مواضع رئيسة:
أ – عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف، أو عدم إصابة السنة التي توافق العمل، الذي نريد إنجازه.
ب – وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو أكثر من الشروط اللازمة لتحقيق السنة التي تتحكم بالعمل.
ج – وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها غايتها. ففي كل مرة نعجز عن إنجاز العمل، أو الوصول إلى الهدف، يجب أن نكون على يقين من أن هـناك خللا قد حصل فعلا، مما يحتم علينا العودة للبحث من جديد عن مصدر هـذا الخلل، ومراجعة ما سبق إنجازه من مراحل.. حتى نستطيع تصحيح المسار، وتدارك الأزمة قبل أن تستفحل.. فإن فعلنا هـذا وصلنا بإذن الله إلى ما نريد، وإلا فإن الفشل سيكون من نصيبنا ثانية.. وثالثة.. ورابعة..
ونود أن نذكر هـنا بحقيقة هـامة قلما تنال حقها من الاهتمام من قبل الباحثين، الذين يتناولون مشكلة التخلف في ديار المسلمين عامة، [ ص: 167 ] ومشكلة العمل الإسلامي بصورة خاصة، فإن اهتمام هـؤلاء ينصرف في معظمه نحو ( العوامل الخارجية ) بينما لا يحظى العاملان الآخران بالعناية الكافية، مما يجعل البحوث التي تتناول المشكلة تدور خارج إطارها الحقيقي، وليس في صميمها.. ويمكن أن نشبه هـذا التناول القاصر للمشكلة بسلوك الطبيب الذي يعالج مظاهر الحمى والصداع، ويغفل عن علاج الجرثومة التي تعيث في جسد المريض فسادا.
ولا نحسب أن اثنين يختلفان حول الحقيقة الجوهرية التالية، وهي أن البحث في أية مشكلة يتطلب ابتداء تحديد طبيعتها، قبل الشروع في وضع الحلول لها..
وما دمنا قد علمنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان إنما يخضع لسنن مخصوصة، فإن دراسة أية مشكلة، يستلزم معرفة السنن، التي تتعلق بها.. ونضرب لهذا مثلا قريبا.. فالأمراض السارية التي ظلت قرونا طويلة تفتك بالبشر، استطاع العلماء أخيرا أن يعرفوا السنة، التي تخضع لها، ومؤدى هـذه السنة أن هـذه الأمراض تحصل عندما تنتقل جرثومة المرض من مصدر خارجي إلى جسم إنسان لديه القابلية للعدوى والمرض.. وعندما عرف الأطباء هـذه السنة، أصبحوا قادرين – بمشيئة الله – على معالجة هـذه الأمراض الفتاكة، بينما كان الناس – قبل اكتشاف السنة التي تخضع لها هـذه الأمراض – يتخبطون في معالجتها، فكانوا يلجأون للسحر والشعوذة تارة، وكانوا يلجأون لأساليب أخرى تارة أخرى، كأن يضربوا المريض ضربا مبرحا، أو يغطسوه في الماء المغلي؛ لأنهم – بسبب جهلهم بسنة المرض – كانوا ينسبونه إلى الأرواح الشريرة، ويظنون الضرب أو الماء المغلي يمكن أن يطرد تلك الأرواح.
وقد نعذر القدماء في تخبطهم بالمعالجة على تلك الشاكلة؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون شيئا من أسرار المرض، ولكن.. هـل لنا – نحن أبناء القرن العشرين – من عذر إن نحن سلكنا اليوم مسلك القدماء نفسه في معالجة المرض، [ ص: 168 ] بعد أن عرفنا سر الجراثيم، وتأثير المضادات الحيوية فيها؟
بالطبع.. لا
ولكن.. مع هـذا، وعلى الرغم من وضوح هـذه الحقيقة البديهية، فإننا ما نزال نقع في الخطأ نفسه، ونتخبط في معالجة كثير من المشكلات، فنلجأ إلى (الضرب) في معالجتها، على طريقة الأقدمين في طرد الأرواح الشريرة
وكثيرا ما نتساءل في استغراب حائر بعدما حصل: كيف لم نصل إلى حل مع أننا بذلنا غاية جهدنا؟
والجواب على هـذا التساؤل الساذج واضح لا لبس فيه، فنحن لم نسلك الطريق الصحيح إلى الحل، ولم نبذل الجهد في محله، فذهب هـباء منثورا.
التالي
السابق