المستشرقون والتاريخ
أهمية التاريخ
للتاريخ أهمية عظمى في بناء الأمم، والمحافظة على هـويتها وشخصيتها،
[ ص: 54 ] بل على قوتها، وقدرتها على الشموخ، والاستطالة، والاستمرار، فهو جذور الأمة التي تضرب بها في الأعماق، فلا تعصف بها الأنواء، ولا تزلزلها الأعاصير، ولا يفتنها الأعداء، وهو ذاكرة الأمة، والذاكرة للأمة كالذاكرة للفرد تماما، بها تعي الأمة ماضيها، وتفسر حاضرها، وتستشرف مستقبلها.
فالإنسان الذي يفقد ذاكرته، يرتد -على ضخامة جسمه- طفلا غرا، لا يعي شيئا مما حوله، عاجزا عن أن يتبصر في أمسه، أو يشعر بيومه، أو يتطلع إلى غده، وكذلك الأمة حين يضيع منها تاريخها، ويشوش في عقول أبنائها، ويشوه في عيونهم، عندئذ يضيع منها الطريق، وتسلم مقودها لمن يوجهها، ويعود يملأ ذاكرتها بما يوجه خطواتها حيث يريد.
فالتاريخ ليس علم الماضي، بل هـو علم الحاضر والمستقبل في واقع الأمر وحقيقته؛ فالأمة التي تستطيع البقاء هـي الأمة التي لها ضمير تاريخي، ومعرفة بالتاريخ، وعشق له، والتاريخ أيضا (عرض الأمة) ، كما سماه كاتب العربية الأكبر:
عباس محمود العقاد ، ورحم الله أمير الشعراء حين قال:
مثل القوم أضاعوا تاريخهم كلقيط عي في الحي انتسابا
ولذا لم نعجب حين حدثت أزمة عالمية بين
الصين واليابان ، أدت إلى حشد الجيوش الصينية على الحدود وقطع العلاقات الدبلوماسية، والتهديد بقطع العلاقات الاقتصادية، وبشن الحرب، كل ذلك بسبب عدة أسطر في كتاب من كتب التاريخ المدرسية، أرادت اليابان أن تغيرها
>[1] .
وأصل قضية تاريخ اليابان هـذه ترجع إلى عام 1945م، يوم انتهت الحرب العالمية الثانية، ودخل
الجنرال الأمريكي مكارثي قائد القوات
[ ص: 55 ] المنتصرة
طوكيو المستسلمة، يومها لم يشغل (مكارثي) زهو الانتصار عن المستقبل، فأرسل يستدعي من
أمريكا بعثة تربوية تضع مناهج تربية جديدة لمدارس اليابان، وكان مما غيرته مناهج التاريخ؛ لتضمن صياغة أجيال جديدة من اليابانيين غير قادرين على إشعال الحرب مرة ثانية. هـذه المناهج المفروضة على اليابان، هـي التي حاول اليابانيون تغييرها، فكانت الأزمة المشار إليها.
ونختم هـذه اللمحة عن قيمة التاريخ بكلمة المفكر المسلم
مالك بن نبي : (إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها)
>[2] .