أولا: المنهج من حيث الشكل أ - الاهتمام بتاريخ الفرق والصراع بينها، وعوامل نشأتها، ومحاولة إثارة أخبارها، ووضعها في بؤرة الشعور لدى الأمة الإسلامية، وتلك مكيدة، كادها أسلاف لهم من قبل، حيث جلس ذياك اليهودي يحكي أخبار ( يوم بعاث ) حتى أوقد نار العداوة بين
الأوس والخزرج من جديد، وكادت تكون فتنة، لولا أن تداركها النبي صلى الله عليه وسلم .
ب - العناية بتاريخ الزندقة والزنادقة، وإبرازهم في صورة أصحاب الفكر الحر، وقادة الفكر، ولهم في هـذا الباب دأب عجيب غريب، وتستطيع أن تمد يدك إلى أي كتاب مما يتناول أعمال المستشرقين لترى ذلك واضحا جليا، فهذا
هـنري كوربان يعيش حياته مع رفيق عمره -على حد تعبير
الدكتور عبد الرحمن بدوي >[1] - (
السهروردي [ ص: 59 ] المقتول) ، فيدرس كتبه ويترجم رسائله، ويحقق وينشر مؤلفاته، وكأنه وجد في هـذا (السهروردي) الزنديق، الذي عاش زمن الحروب الصليبية، ولم يتورع عن أضاليله وأباطيله، التي كان ينفثها في المجتمع الصامد المثابر المصابر، أمام الهجمة الصليبية الشرسة، مما استحق عليه القتل جزاء زندقته، كأن هـذا
المستشرق كوربان وقع على كنز، فراح يعكف على تراث هـذا الزنديق، وكان من أثر ذلك أن تسربت هـذه الأفكار على أسنة أقلام المثقفين المعاصرين، فإذا بأحدهم -وهو يكتب عن بعض القضايا الأدبية- يطالعنا بعنوان بارز لإحدى مقالاته: (إعدام حكيم الإشراق... كان أبشع ما اقترفته يدا
صلاح الدين الأيوبي ) ...
وهكذا استطاع (كوربان) أن ينتقم من صلاح الدين الأيوبي أبشع انتقام، وأن يحدث في ثقافة هـذا الكاتب المسلم هـذا الصدع الخطير، وأن يضع المثقفين أمام هـذه المفارقة العجيبة المؤلمة؛ بين قهر حرية الفكر والرأي، وقهر الصليبيين.
فصلاح الدين قاهر الصليبيين، هـو في الوقت نفسه قاتل
السهرودي قهرا للرأي؛ وأدا لحرية الفكر، وعليكم أن تختاروا معشر المثقفين، بين قهر الفكر، وقهر الصليبيين.
وكنت قد كتبت تعليقا بمجلة الأمة القطرية عدد: 50، ص 96، بعنوان: (أصول الأفكار، وجذورها) ، حاولت فيه أن أبحث عن أصل هـذه الفكرة -اتهام صلاح الدين بوأد الفكر، وقتل السهروردي- وردها إلى منبتها وجذورها، ويومها وقفت بها عند
سلامة موسى >[2] ،حيث رأيتها في كتابه:
[ ص: 60 ] (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ: 133) ، إذ قال: (ويجب ألا ننسى أن
السهروردي قتل بأمر
صلاح الدين الأيوبي ... فقد كان رجلا كرديا غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه، ويزينوا له قتل السهروردي) .
ويومها لم أكن قد اطلعت على ما كتبه المستشرق
كوربان عن السهروردي، لأعلم أن سلامة موسى متكئ عليه في هـذا الكلام، وأن أصل الفكرة، وجذورها ترجع إلى أبعد من سلامة موسى، ترجع إلى (كوربان) .
وهكذا إذا استحال عليهم أن يجدوا مغمزا في
صلاح الدين الأيوبي عن طريق التاريخ السياسي، واستعصى عليهم إنكار بطولاته، وفروسيته ونبله، ومروءته، وكرمه، وشرفه، نقبوا في تاريخ الفكر لذلك العصر ليجدوا حادثة (السهروردي) الملحد فيضخموها، ويكبروها ويجعلوا من الملحد بطلا، ومثالا لحرية الرأي والفكر، التي لم يصبر عليها صلاح الدين الأيوبي، (الكردي الجاهل) فأمر بقتل ذلك (الحكيم) .
ومما يدخل في هـذا الباب -أعني: توظيف تاريخ الفكر واستخدامه- ما قام به ماسينيون من دراسات وأبحاث حول
الحلاج ، يقول
أستاذنا الدكتور محمود قاسم : (إن الاستعمار الفرنسي
للجزائر استطاع بجبروته وعسفه أن يفرض لغته على كثير من المثقفين في الجزائر وشمال إفريقية، غير أنه لم يستطع أن ينال كثيرا من العقيدة الإسلامية، رغم ما بذل المختصون في شئون الثقافة من محاولات لفصم العقلية الجزائرية عن طريق تمجيد التصوف الكاذب، وإشاعة الخرافات والأباطيل، على نحو ما نراه في مؤلفات
لويس ماسينون ، الذي خصص حياته للكتابة في
الحلاج >[3] ، فجعله صورة من المسيح في الإسلام،
[ ص: 61 ] وأعتقد أن ماسينيون ما كان يعني بالحلاج قدر عنايته بتنفيذ مخطط استعماري أحكم صنعه، فقد ملأ كتابه الضخم عن الحلاج بحشد هـائل من الخرافات والترهات والأباطيل، حتى يعمق الهوة بين طائفتين توجدان
بالجزائر ، طائفة تتمسك بالقديم فتنساق حسب ظنه، إلى اعتقاد أن هـذه الخرافات والهذيانات هـي صميم الإسلام، وطائفة مثقفة بالثقافة الحديثة تتجه من جانبها إلى السخرية، والزراية بهذا الإسلام الخرافي، بل من الإسلام كله)
>[4] .
ومن المعروف أن
لويس ماسينيون هـذا (كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية لشئون الشمال الإفريقي، والراعي الروحي للمجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وحين قامت الحرب العالمية الأولى -وكان قد تزوج منذ شهور- التحق بالجيش الفرنسي، وخاض معركة الدردنيل ضد الخلافة العثمانية، برتبة ضابط في جيش المشرق، ثم رأيناه مع الجيش الذي دخل القدس في سنة 1917م، بقيادة
اللورد اللنبي >[5] .
ولعل من هـذا الباب -عبثهم بتاريخ الفكر والعلم- ما قام به
المستشرق كراوس ؛ ذلك الصهيوني التشيكي الأصل، الذي عمل أستاذا للغات السامية في جامعة القاهرة، من سنة 1936-1944م، حيث عثر عليه وقد شنق نفسه في مسكنه بالزمالك.
[ ص: 62 ] عني هـذا المستشرق بتاريخ العلوم عند المسلمين، (وأكب على دراسة الكيمياء عند العرب، وركز بحثه على رسائل
جابر بن حيان في الكيمياء، وانتهى في بحث نشره: 1930م، بعنوان: (تحطم أسطورة جابر بن حيان) إلى القول: بأن الرسائل العديدة المنسوبة إلى جابر بن حيان، هـي في الواقع من تأليف جماعة من
الإسماعيلية )
>[6] .
هكذا، إنكار لوجود جابر بن حيان عبقري الكيمياء المسلم، وتمجيد (للإسماعيلية) تلك الفرقة الباطنية المنشقة المنحرفة، عن عقائد الإسلام وتعاليمه.
فإذا علمنا أن هـذا المستشرق كان عضوا في عصابة (اشترن) الصهيونية، التي عملت مع زميلتيها (عصابة الهاجاناة) و (عصابة أرجوان زفاي) على إنشاء إسرائيل في سنة 1948م، وذلك بالقتل والإرهاب وسفك الدماء، ويرجح
الدكتور عبد الرحمن بدوي وقد كان صديقا لهذا المستشرق، ومساعدا له في بعض أبحاثه، أن السبب في انتحاره هـو (أن القرعة وقعت عليه؛ لتكليفه من العصابة بقتل (
اللورد موين ) الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، الذي خيل إلى عصابة (اشترن) أنه عقبة في سبيل النشاط الصهيوني، لإيجاد دولة إسرائيل، بدعوى أنه يمالئ العرب
>[7] ، أو في القليل يحارب الإرهاب الصهيوني ضد الإنجليز في فلسطين آنذاك، التي كانت ما تزال تحت الانتداب البريطاني، وتبعا لذلك كان على
كراوس أن يختار بين الاشتراك في عملية الاغتيال، أو أن ينتحر، وهو على الحالين مقتول، فيبدو أنه آثر الاختيار الثاني؛ أعني أن يقتل نفسه بنفسه، بدلا من أن يشترك في قتل (اللورد موين) ،
[ ص: 63 ] مما سينجم عنه إعدامه أيضا، كما حدث لمن نفذوا عملية الاغتيال)
>[8] .
فهذا التاريخ (الناصع) لهذا المستشرق يدلك على قيمة أمانته العلمية، حين ينكر شخصية (جابر بن حيان) ، ويدعي أنه أسطورة، على حين ينسب علمه إلى فرقة منحرفة، ضالة مضلة؛ وهي فرقة
الإسماعيلية . والذي يجمع الأعمال الاستشراقية حول الإسماعيلية، من أبحاث ودراسات، وتحقيق لرسائلها، وترجمات لها، وتاريخ لرجالها، يهوله لا شك حجم هـذه الأعمال، ويدرك بأدنى تأمل ما يريده المستشرقون من وراء هـذه الأعمال، وهذه الفرقة.
ج - القفز وراء العصر الإسلامي، والاهتمام بالتاريخ القديم، لأقاليم دار الإسلام؛ إحياء للفرعونية، والبابلية، والآشورية، والفينيقية ونحوها؛ إثارة للنعرات الإقليمية، وتمزيقا لجسد الأمة الإسلامية. ونظرة إلى أعمال أحد المؤتمرات الدورية التي يعقدها المستشرقون؛ وهو المؤتمر الخامس عشر، الذي انعقد في
كوبنهاجن سنة 1908م تريك صدق ما أقول، فقد كان جدول أعمال هـذا المؤتمر على النحو التالي:
1 - التاريخ البابلي.
2 - آثار مصر التاريخية.
3 - تاريخ مصر القديم واكتشاف البردي.
4 - المدافن الملكية من السلالة الرابعة عشرة.
5 - المدافن الملكية من السلالة الخامسة.
6 - اكتشاف الكرنك.
7 - أميرات مصر وملكاتها القديمات.
8 - ما بين الكتب المقدسة والآثار المصرية.
9 - مشروعات اليهود الدينية.
[ ص: 64 ] 10 - حفريات أريحا والآثار الكنعانية.
11 - النظام الكنائسي في آسيا في القرن الرابع عشر.
12 - رسوم الملك جوستينيان.
13 - فضل الكنيسة في إبطال الرق في القرون الوسطى.
14 - تاريخ الشرق والإسلام.
15 - اقتصاد العرب المالي في يد الفتح المصري.
16 - تاريخ بني إسرائيل.
17 - هـيكل جزيرة أسوان وآثارها المكتشفة
>[9] .
وقد بذلوا جهودا مضنية في البحث والتنقيب، والدراسة، والإشادة بهذه الحضارات البائدة، والتنويه بشأنها، وإغراء أهل كل إقليم بماضيه القديم؛ حتى صارت الفرعونية في مصر مثلا تناطح العروبة، وأصبح قرن الشر يطلع علينا من آن لآخر، في صورة هـذا السؤال:
فرعونيون أم عرب؟ وهكذا في كل أقاليم ديار الإسلام.
وعلى حين كانت الثقافة وكان التعليم يتجاوز العصور التي قبل الإسلام ويوجز الحديث عنها، بدأ الاهتمام بها، ووضعها في مركز الشعور وتستطيع أن تتبين ما أقول إذا قرأت هـذا الكلام
لطه حسين ، قال: (ولم ينس الفتى -يقصد نفسه- يوما خاصم فيه ابن خالته، الذي كان طالبا في دار العلوم، ولج بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما أنت والعلم، إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قط درسا في تاريخ الفراعنة، أسمعت قط باسم رمسيس أو أخناتون؟ وبهت الفتى حين سمع هـذين الاسمين... وحين سمع ذكر هـذا النوع من التاريخ، أعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها، ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من
[ ص: 65 ] غرفات الجامعة يسمع
الأستاذ أحمد كمال -رحمه الله- يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر
رمسيس وأخناتون وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية، ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى اللغة العربية مرة وإلى العبرية مرة، وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل، حين يسمع كل هـذا العلم... وهو يعود إلى بيته ذلك المساء، وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرا منه ومن دار علومه، التي كان يستعلي بها عليه، وهو يسأل ابن خالته، أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟ فإذا أجابه بأن هـذه اللغات لا تدرس في دار العلوم أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية، ثم ذكر الهيروغليفية، وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون)
>[10] .
وهكذا كان الأزهريون لا يسمعون باسم رمسيس وأخناتون، وكانت دار العلوم تمر على تاريخ الفراعنة مر الكرام، فلما جاءت الجامعة المصرية، وجاءت مناهج المستشرقين صار تاريخ الفراعنة، وحضارة الفراعنة، ولغة الفراعنة محل عناية بالغة، جعلت للفرعونية مكانا ومنزلة، مما أدى إلى أن تصير الفرعونية توجها مطروحا بين التوجهات، ثم إحياء لإقليمية ضيقة ذات حدود محصورة مقصورة، وما حدث في إحياء الفرعونية حدث مثله مع البابلية، والآشورية، والفينيقية، وأخواتها، مما نجني ثماره علقما بهذا التشرذم الذي نعيشه الآن.
ذ - تمزيق تاريخ الأمة الإسلامية طولا وعرضا؛ بتقسيمه طولا إلى تواريخ أسر؛ الأموية، والعباسية، والمماليك، والعثمانيين... إلخ، وعرضا
[ ص: 66 ] بتقسيمه إلى تواريخ أقاليم ومناطق، يمدها في العمق قبل الإسلام -كما أشرنا- لإثارة عوامل الفرقة، ومظاهر الاختلاف، ومؤكدا إياها، ومذكرا بالصراعات والحروب والخصومات والإحن.
على حين الأصل في تاريخ دار الإسلام أن يدرس -إذا أردنا دراسة علمية منهجية صحيحة- على أنه صراع بين المسيحية الشمالية المعتدية، التي جاء الإسلام فوجدها مسيطرة على الشام ومصر، والشمال الأفريقي، فخلص هـذه الديار من سلطانها، وردها إلى عقر دارها، فاندحرت تحمل ذل الهزيمة على جباهها، ونار الحقد والثأر في قلوبها، ثم كان الجهاد الإسلامي استجابة للأمر بتبليغ رسالة الإسلام للعالمين، فكان فتح الأندلس ، ومحاولات فتح القسطنطينية ، ثم الصراع الدائم على الحدود والثغور، ثم جولة الحروب الصليبية التي استمرت نحو قرنين، ثم سقوط القسطنطينية، ودخول الإسلام إلى قلب أوربا، ودخول كثير من أقاليمها في الإسلام، ثم محاولة الصليبية الالتفاف حول ديار الإسلام، وعقد الأنشوطة حوله -على حد تعبير
توينبي مؤرخهم- ثم محاولة اختراق ديار الإسلام منذ القرن التاسع عشر، على أيدي
نابليون وحملته على الشرق -وليس على مصر كما يلقنوننا- ثم حملة
فريزر ، التي أرادت الدخول من بوابة مصر أيضا، ثم حملة فرنسا على الجزائر سنة 1830م... إلخ. هـذا هـو تاريخ الإسلام إن أردنا أن ندرسه على حقيقته، بمنهج علمي سليم.
أما معركة الجمل ، ومعركة صفين ، والتحكيم ،
والخوارج ، ووقعة الحرة ، وكربلاء ، ومقتل أبي مسلم الخرساني ، وصراع الأمويين والعباسيين... إلخ، فتلك عثرات على الطريق، وهي لازمة للقصور، والضعف البشري، فنحن لا نزعم أن أسلافنا ملائكة، وهي على أية حال جزئيات تظهر في الصورة، ولكنها لا يمكن -عند المنهج العلمي السليم- أن تغطي على عمود الصورة الكلية أو تؤثر في بنائها، كما أنها واقعا وحقا -لايجرؤ
[ ص: 67 ] أن ينكره منكر- لم تؤثر في تدفق نهر تاريخ أمتنا، ولم تكدره، بل ظل أكثر من ألف عام مدفقا معطاء.
ولا يتوهمن أحد أننا نريد أن نخفي شيئا من تاريخنا، فنحن نعي أننا نكتب تاريخ بشر، لا تاريخ ملائكة، وإنما الخطر في ذلك المنهج الذي يقف عند هـذه العثرات، ويصوغ منها تاريخنا، ولذا نشأت أجيال لا أقول من عامة المثقفين، بل من خاصتهم، بل من خاصة الدعاة إلى الإسلام، ممن لا نغمطهم في علم ولا في خلق ولا في دين ولا في غيرة، واحتراق من أجل الإسلام، أقول نشأت أجيال من هـؤلاء، ولم يبق في ذهنهم من تاريخ أمتنا إلا هـذه المآسي، التي انطبعت في أعماق أعماقهم، وهم في أول الطريق، فجاء جيل بعد جيل، وهم يمقتون تاريخهم، ويتخيلونه ساحة مظلمة، يسيطر عليها الجهل والطغيان، والقتل، والظلم الاجتماعي
>[11] .
ولو نظرنا في تاريخ أوربا لوجدنا أن ما دار بينهم من صراع، وما كان عندهم من مآس، وما صبغ أيامهم من دم، وما غطى عصورهم من جهل، وما ران على تاريخهم من ظلم، وما تردت فيه خطواتهم من وحل لوجدنا أن ما كان عندهم يفوق بعض بعضه كل ما كان عندنا، بل إن ما كان عندنا أبدا لا يذكر في مقابلة ما كان عندهم، (ولكن التاريخ الأوروبي عثر على مؤرخين أعادوا إليه الحياة، وقدموه في إطار حي بصورة فنية رائعة بكل عناصرها؛ الخلفية، والتكوين، والأضواء، والظلال، والألوان، والمساحات)
>[12] .
وبقينا نحن نتطلع إلى تاريخهم بإعجاب، معتقدين أنهم لم يعرفوا هـذه المآسي، التي لم يبق غيرها مستقرا في أعماقنا، من تاريخ أمتنا.
[ ص: 68 ] ولم يقتصر تقسيمهم التاريخ إلى فترات زمنية على التاريخ السياسي فقط، بل شمل ذلك تاريخ الأدب العربي أيضا، فقسموه إلى العصر الجاهلي، ثم صدر الإسلام، ثم العصر الأموي، والعصر العباسي... إلخ، على نحو ما هـو معروف، يؤكد ذلك
الدكتور أحمد أمين ، حيث يقول في كتابه: (حياتي) : (إن فكرة تصنيف الأدب العربي إلى عصور مختلفة مع تحديد خصائص كل عصر، وتحليل سير مؤلفيه لم تكن معروفة بمصر لحين وصول المستشرقين)
>[13] .
هـ - اختزال تاريخ الإسلام والمسلمين:
فقد ألفت كتب كثيرة في تاريخ العالم، أو تاريخ الحضارة الإنسانية، فكان مؤلفوها الغربيون يختزلون تاريخ الإسلام والمسلمين اختزالا يوحي بقيمته ومكانته في نفوسهم، بل يوحي بانحراف منهجهم، وسوء قصدهم، ويكفي مثالا على ذلك الكتاب الذي كتبه (هـ. ج. ويلز) باسم: (معالم تاريخ الإنسانية) ، وترجمه إلى العربية: عبد العزيز توفيق جاويد، وطبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر، ولا تجد في الكتاب إلا تاريخ الجاهليات، والوثنيات، أما تاريخ الإسلام وأثره في (معالم تاريخ الإنسانية) ، فلم يذكره إلا بفصل من 53 صفحة.
والسر في ذلك أنهم دائما يكتبون التاريخ من مركز الدائرة الأوربية؛ أي ينظرون من زاوية أوربية، وبعيون أوربية، فتاريخ العالم هـو تاريخ الغرب، وأما ما سوى الغرب فهو لا يذكر إلا بمقدار ما يتصل بالغرب، أو يتأثر به، أو يأخذ عنه، فما سوى الغرب نقاط متناثرة حول صلب التاريخ وعموده.