أ - الخضوع للأهواء وعدم التجرد للبحث شرط المنهج الأول وأساسه التجرد من الأهواء، وعدم الوقوع تحت سلطانها، فلا يميل الهوى بالباحث لإثبات ما يوافق هـواه، ونفي ما عداه، فما بالنا بمن يحدد الغرض أولا، والنتيجة مسبقا، ثم يبدأ في البحث عما يؤيدها، والتنقيب عما يثبتها، فهذا ليس علما، وليس بحثا، مهما كانت صورته، ومهما كان شكله، وهذا هـو ما يعمله المستشرقون، فهم (يعينون لهم غاية، ويقررون في أنفسهم تحقيق تلك الغاية بكل طريق، ثم يقومون لها بجمع معلومات -من كل رطب ويابس- ليس لها علاقة بالموضوع؛ سواء من كتب الديانة والتاريخ، أو الأدب أو الشعر، أو الرواية، والقصص، أو المجون والفكاهة، وإن كانت هـذه المواد تافهة لا قيمة لها، ويقدمونها بعد التمويه بكل جراءة، ويبنون عليها نظرية، لا يكون لها وجود إلا في نفوسهم وأذهانهم.) (العلامة أبو الحسن الندوي: الإسلام والمستشرقون، 19، المجمع الإسلامي العلمي، ندوة العلماء، لكنو، الهند، 1402هـ، 1982م) .
وما ذكرناه في هـذا البحث آنفا عن أهداف المستشرقين وغاياتهم يشير إلى هـذه الآفة؛ فالمستشرق يبدأ بحثه وأمامه غاية حددها، ونتيجة وصل إليها
[ ص: 70 ] مقدما، ثم يحاول أن يثبتها بعد ذلك، ومن هـنا يكون دأبه واستقصاؤه، الذي يأخذ بأبصار بعضهم، وهو في الواقع يدأب ويشقى ويكد لينحي ما يهدم فكرته ويكذب رأيه، ويخفي ويطمس ويتجاهل كل ما يسوقه إلى نتيجة غير التي حددها سلفا، ومن هـنا تأتي أبحاثهم عليها مسحة العناء والاستقصاء، ولكنه عناء الالتواء، واستقصاء من يجمع من لا شيء شيئا، ويصنع من الهباء بناء، ويبني من الغبار صرحا.
يقول
أستاذنا محمود شاكر عن هـذا الخطر، والخلل المنهجي: (وأما الأهواء؛ فهي الداء المبير، والشر المستطير، والفساد الأكبر، إن هـو ألم بأي عمل إلمامة خفيفة الدبيب، بله الوطء المتثاقل أحاله إلى عمل مستقذر منبوذ كريه، حتى ولو جاءك هـذا العمل في أحسن ثيابه، وحليه وعطوره، وأتمها زينة من دقة استيعاب وتمحيص، ومهارة، وحذق وذكاء)
>[1] .
هذا الداء المبير، والخطر الوبيل حذر منه علماؤنا الأقدمون، منذ أكثر من ألف عام، حيث وضعوا قواعد المنهج، وحددوا أركانه وشروطه، فتردد في كتبهم، ونبهوا عليه في كثير من مؤلفاتهم، وخصوا هـذه القواعد بكتب ورسائل خاصة، فمن قبل ألف عام قرأت الدنيا
للحسن بن الهيثم المتوفى سنة 430 هـ 1038م، فيما وضعه من قواعد المنهج قوله في كتابه (المناظر) : (ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل، لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه، وننتقده طلب الحق، لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج
>[2] الصدر، ونصل
[ ص: 71 ] بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وينحسم بها مواد الشبهات)
>[3] .
هكذا استعمال العدل والبعد عن الهوى، وطلب الحق، وعدم الميل مع الآراء شرط للوصول إلى اليقين والحقيقة. فهل كان المستشرقون يبغون اليقين ويريدون الحقيقة؟