و - التشكيك في الدليل القاطع والتعامي عنه
فحينما يكون الدليل قائما على الرأي أو الحكم، الذي لا يوافق هـوى المستشرق تجده يتعامى عنه، ويتجاهله، ويشكك فيه، حتى لو كان صحيحا بين الصحة؛ كأن يكون حديثا في الصحيحين، بل لو كان قرآنا كريما صريح الدلالة.
فمن ذلك مثلا قول (
مونتجومري وات ) : (وكان يقال في الإسلام: إن
[ ص: 109 ] المهر كان ملك المرأة)
>[1] .
فانظر تعبيره بلفظ: (يقال) ، فهي صيغة تشكيك في هـذا الحكم، يوحي بأنه غير مصدق أن يكون ذلك من شريعة الإسلام وأحكامه، مع قراءته (قطعا) للآية الكريمة في سورة النساء:
( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) (النساء:4) ، ولكنه يغض بصره عن هـذه الآية الكريمة: (وهو قد قرأها قطعا بدليل استشهاده بآيات من السورة نفسها) ، التي تأمر بغاية الوضوح، والصراحة بإعطاء النساء مهورهن.
فمع ما استقر في أعماق ثقافته من أن الإسلام يظلم المرأة ويمتهنها، لا يقبل عقله أن يرى القرآن ينص على أن المهر حق المرأة.
ولذا يواصل التعامي عن أي دليل في هـذا الحكم وينكره، فيقول: (ولا يذكر القرآن المهر إلا بصورة عارضة عند ذكر الطلاق)
>[2] .
وهو بذلك يشير إلى الآية الكريمة:
( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) (البقرة:229) . والى قوله تعالى:
( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) (البقرة:236) ، وإلى الآية الكريمة أيضا:
( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ) (البقرة:237) . وكذلك إلى الآية الكريمة:
( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن [ ص: 110 ] قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) (النساء:20) . فهذه الآية الكريمة التي تتحدث عن حكم المهر، وأحقية المرأة في المهر بالغا ما بلغ، ولو كان قنطارا من الذهب، وتحرم أشد التحريم أن يأخذ الرجل منه شيئا، وتجعل أخذه بهتانا وإثما مبينا، يسميها (م. وات) : (عرضا) ؛ تعاميا عن الحكم المقرر الثابت الذي أكدته، ومن أجل هـذا تجده لا يذكر هـذه الآيات في كتابه، ولا يشير إلى أرقامها، ولا إلى موضعها من القرآن الكريم ويكتفي بإشارة سريعة غاية في التعمية والتجهيل: (لا يذكر القرآن المهر إلا عرضا) ، كذا، فما بال الآيتين اللتين ذكرتا المهر قصدا لا عرضا؛ أعني قوله تعالى:
( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هـنيئا مريئا ) (النساء:4) ، وقوله تعالى:
( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) (النساء:24) .
نجده يتعامى عن الآية الأولى تماما (رقم:4) ولا يعرض لها إطلاقا، وكأنما ذهب بصره عندما مر عليها، أما الآية الثانية (رقم:24) فقد وجد لنفسه مخرجا منها، ووجد لنفسه حيلة معها، ومن أجل ذلك عرض لها حيث قال: (ولا شك أن الأجور التي يجب دفعها للنساء (قرآن:4-28) تختلف عن ذلك )
>[3] ؛ يعني: المهر.
وإذا تجاوزنا عن الخطأ في رقم الآية فالصحيح أنها رقم: (24) ، وليس: (28) كما ذكر، (هذا إذا لم تقل: إنه تعمد التضليل) .
أقول: إذا تجاوزنا عن ذلك، فمن حقنا أن نسائله: لما رفض تفسير المهور بالأجور، مع أن هـذا هـو الذي عليه
القرطبي ،
وابن كثير ،
والسيوطي ،
[ ص: 111 ] وغيرهم من المفسرين، فسياق الآية بعد ذكر المحرمات من النساء،
( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ) (النساء:24) ، هـذا السياق يؤكد أن المراد بالأجور هـو: المهر ؛ حيث تتحدث الآية عن الزواج (الاستمتاع) بما (وراء ذلكم) ؛ أي: بغير المحرمات من النساء. ولذلك قال
القرطبي : قال
الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى: فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح،
( فآتوهن أجورهن ) (النساء:24) ؛ أي: مهورهن. (جزء: 5 / 129) . ولكنه تعلق بما روي أن الآية في نكاح المتعة التي كانت في صدر الإسلام، ثم نسخت. ولعله لم يشأ أن يفصح عن هـذا التفسير لما رآه واهيا، وإن كان القرطبي قد عزاه إلى الجمهور.
كما ورد ذكر المهر في آية أخرى، لم يشأ أن يراها (م. وات) مع أنها تالية للآية التي أشار إليها مباشرة؛ وهي قوله تعالى:
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ) (النساء:25) .
فهنا ذكر للأجور (أي: المهور) قصدا لا عرضا، ولكنه لم يشر إليها رغم أنها في آية تالية للآية التي استشهد بها، ولكن لأنه لم يجد له حيلة مع هـذه الآية؛ لأن المراد هـنا بالأجور: المهور، لم يقل قائل بغير ذلك؛ لأن قوله تعالى:
( فانكحوهن بإذن أهلهن ) (النساء:25) يمنع أن يراد هـنا نكاح المتعة ، كما قاله البعض في الآية السابقة.
[ ص: 112 ] وأعتقد أنه قد بان الآن بأجلى بيان أن الرجل (م. وات) يتجاهل الدليل ويهرب منه، وهو بين يديه، وأي دليل؛ آيات القرآن العظيم.
على حين لو وجد في كتاب: (الأغاني) ، أو: (الأحاجي) ، أو: (القصص) ، أو: (الخرافات) أي كلام يؤيد دعواه لاحتفى به كل الاحتفاء، وأقام منه صرحا شامخا يعتمد عليه ويستند إليه.
ونجد هـذا التشكيك في الدليل القاطع عند مستشرق آخر؛ هـو (
ول. ديورانت ) صاحب الموسوعة الضخمة: قصة الحضارة
>[4] . ومثال ذلك:
يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم : (وقد أعانه نشاطه على أداء واجبات الحب والحرب، ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت، فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحمايات، ونوبات غريبة... إلخ)
>[5] .
ولا يعنينا أن نناقش القبح والفحش الذي كتب به المؤلف ما كتبه عن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأبي هـو وأمي وبنفسي وبالناس أجمعين، فليس هـذا مجال مناقشته، ولكن الذي يعنيني أن أضبط هـذا المستشرق العلامة متلبسا بخيانة المنهج. وذلك قوله: (وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم) . فهذا التعبير بـ: (ظن) ، يريد به أن ينفي صحة الخبر؛ ليبرئ اليهود بالتالي من جريمة محاولة قتله - صلى الله عليه وسلم - بالسم، ومن قتل الصحابي الجليل الذي أكل معه.
[ ص: 113 ] وهذا الخبر (خبر دس السم) موجود مشهور في مصادر السيرة النبوية المختلفة، فقد أورده
ابن هـشام في سياق غزوة خيبر ، وأورده
ابن سعد في طبقاته، ورواه
البخاري في غير موضع، 5/176، ومسلم، 7/14-15، كلاهما من حديث
أنس ،
وأحمد برقم: 2885، من حديث
ابن عباس ،
وأبو داود ، 1/146،
والدارمي ، 1/33 عن
جابر ... (وفيه اعتراف اليهود بدس السم، وعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن هـذا الجرم الفظيع مع موت الصحابي الجليل
البراء بن معرور بهذا السم) .
ومع ثبوت هـذا الخبر ووفرة مصادره تأبى (الأمانة العلمية) و (الحيدة الأكاديمية) و (منهج البحث) على هـذا المستشرق العتيد إلا أن يزيف ويحرف فينكر الخبر، وينسب الحادثة في إيجاز بارع إلى مجرد ظن ووهم.