عبر وعظات
لقد كان في تاريخ الذين دخلوا الإسلام، عبر وعظات ، فقد أخذتهم أخلاق المسلمين، وأسرتهم معاملتهم، وشدتهم مثاليات الإسلام، واتساع أفقه وإحاطته وشموله، إلى ترك ما هـم عليه من معتقد ودين ، والانضواء تحت راية الإسلام عن طواعية وقناعة.
ونحن في العصر الحاضر، لنا احتكاك، ومعاملات، مع فئات مختلفة من البشر، في شتى أصقاع الأرض، على اختلاف مستوياتهم ومللهم، وعلى تباين وجهات نظرهم ونحلهم، وهي فرصة ملائمة لأبناء الإسلام، يحسن
[ ص: 111 ] اهتبالها. ففي الوقت الذي تعاني بلاد الغرب ركودا اقتصاديا ، وبطالة عمالية ، وتذبذبا فكريا ، نجد أن ميزان مدفوعاتهم لا يرتفع إلا بأموال المسلمين، وحركتهم الاقتصادية لا تتحسن إلا بالتعامل التجاري، أو السياحي مع المسلمين أيضا. ودورنا أن ندخل مع هـؤلاء في معاملاتهم من منطلق عقيدتنا، ونتحمس لها متأسين
بعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: " أنقبل الدنية في ديننا. " ويحضرني بالمناسبة قصة تاجر تعامل مع شركة يابانية كوكيل لها، ففقدت له بضائع بواسطة شركة النقل الجوية، ورفضت تعويضه لأنه لم يؤمن، وقد كسب القضية عندما صدر بها حكم شرعي من إحدى البلاد الإسلامية، بأن الناقل ضامن حتى إيصالها لمقر التاجر، عوضا عن أجرته.. لكن الشركات فيما بعد رفضت أن تنقل له لأنه ينكر التأمين ولا يريد التعامل به لمخالفته لتعاليم دينه الإسلامي.. فهددته الشركة الصانعة، وجاءت لتقيم عليه احتجاجا بتشويه سمعتها.. وشد ما كانت دهشته بعد أن فهموا منطلقة العقائدي الإسلامي وغايته، أن قال مدير الشركة اليابانية: ما دمت لم تتركه إلا لناحية دينية يحتمها معتقدك، فإن الشركة بعد الآن سوف تثق بك، وتتحمل ما يترتب من زيادة شحن، وتعتبر هـي الضامنة ولن نطالبك بعد الآن بعقود رسمية.. لأن الغش والخداع قد كفينا شرهما من جانبك. إن العقود المالية ، لو أصر المسلمون -كنموذج للدعوة- على رفض ما يأتي فيها من معارضات مع المعاملات الإسلامية ، لوجد أولئك أنفسهم -وفقا للحاجة- في موقف يحتم عليهم الموافقة مبدئيا، ثم الإعجاب ثانيا بمن ينطلق في عمله من عقيدة، ثم الدراسة والاقتداء ثالثا بعد معرفة الجوهر. هذا نموذج واحد، ونماذج أخرى تبين في الحياة العملية، أو الاجتماعية، فقد يؤثر الطالب في أستاذه، والزميل في زميله، ذلك أن العمل الذي يصدر
[ ص: 112 ] عن قناعة، وينطلق من قواعد صلبة، وقلوب ملآى، لا بد أن يكون له صدى، وإن اصطدم في البداية ببعض الحواجز والعقبات.. إلا أن المصابرة والمثابرة، أمران متلازمان لاستكمال أداء المهمة، والاقتناع بالهدف. ونكتفي في هـذا المجال بأمثلة حية وقعت، كنموذج يرمز لما نحن بصدده: 1- عالم إنجليزي من أساتذة الفلك وعلماء الكونيات في إحدى جامعات
إنجلترا ، رغب في الإسلام بقدوة صالحة يراها من تلميذه الهندي، ثم زميله في المهنة فيما بعد.. ذلك أن هـذا المسلم يتحين الفرص ليقرنها باستشهاد قرآني، أو أحاديث نبوية، على كل موقف عميق يمر.. وفي يوم من الأيام، كان هـذا العالم يجري بحثا عن ظاهرة تغير الألوان في الجبال، وهل للظواهر الكونية دور فيها، وطالت به التجارب وتعددت الأبحاث فاستعان بزميله الهندي المسلم، وقال له وهما يقلبان أنواع الصخور المتباينة الألوان، والمتغايرة في الشكل والمظهر، ترجمة لمعاني الآيات الكريمات:
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) فاطر: (27-28) . فاستعاد منه هـذا العالم المعنى ثلاث مرات، وفي كل مرة يقف قليلا في استجلاء للمعنى.. وبعد برهة سكوت، قال: لقد علق بأذهاننا نحن أبناء الغرب عن دينكم الإسلامي أشياء، كلها افتراء لأننا نأخذ عن مصدر واحد، ولا نأخذ عن المصدر الآخر الإسلامي.. أما من واقع ما سمعت فإن رسولكم
محمدا ، وهو الأمي، لا يمكن أن يأتي بهذا الكلام من ذات نفسه، ولا أن يكون القرآن من تأليفه كما تصور لنا الدراسات الغربية، فهذه المعاني لا يستجليها إلا من أفنى عمره في الدراسة والبحث العميق. ثم بدأ الدراسة عن الإسلام.. والخوض في غماره حتى أسلم عن قناعة وعلم.
[ ص: 113 ] 2- وأحد البحارة، كان يساعده في عمله بحار من
اليمن ، أفنيا عمريهما سويا في لجج البحار، وفي أثناء ما كان يرى هـذا المسلم مداوما على صلاته وعبادته فإنه كان يسخر منه أحيانا، ويلمزه أحيانا أخرى.. لكن هـذا المسلم استمر على عمله، وعلاقته بربه، غير عابئ ما دام لم يحاول منعه، أو مضايقته.. وتشاء إرادة الله أن يكتنف الموج هـذه السفينة الصغيرة، وتحتويها لجته العاتية فيتقين البحار ومن معه بالهلاك ويلجأ إلى مساعدة البحار المسلم بتضرع وخنوع، ليصلي لله ركعات وقت الشدة، لأنه طالما كان معه في الرخاء، لعل الله أن ينقذهم مما هـم فيه. ويبتدىء اتصاله بربه قارئا في عبادته، آية طالما رددها في المواقف المماثلة مسترشدا مستشهدا:
( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) ( النور: 40) . وبعد أن تقشعت الظلمة، وتبدد الخطر، بدأ البحار حواره مع مساعده المسلم، مستوضحا عن نظرة الإسلام في مثل هـذه الظاهرة، فشرح له مدلول الآية الكريمة، فوقف واجما: هـل كان
محمد بحارا؟، قال: لا. قال: هـل ركب البحر في حياته ؟ قال: لا يعرف. قال: وكيف يأتي بمثل ذلك المشهد الذي لم أره متجليا في حياتي العامرة بخوض البحار، إلا هـذا اليوم، الذي أجد القرآن يتحدث عنه، من واقع المشاهدة؟ قال: هـذا من أسرار عظمة الإسلام، وعالمية القرآن. لقد كان المشهد مدخلا مباشرا لاعتناق هـذا البحار الإسلام عن قناعة وفهم. 3- ومشهد ثالث، يدخل أحد الأمريكان الإسلام، لإعجابه بالخط العربي وأشكاله.. ثم طبيب يعتنق الإسلام لأن العملية التي أجراها في القلب لمريض نجحت 100%، وبعد زوال الخطر، تحدث مضاعفات ينتج عنها مرض مفاجىء كان سببا لوفاة المريض.. ثم يجري عملية ثانية في القلب، وهو مقتنع بأن الأمل في حياة المريض لا يعدو 5,1% من نتيجة
[ ص: 114 ] هذه العملية، لكن يفاجأ بتحسن المريض يوما بعد يوم ويعافى.. وتكون فاتحة دخوله الإسلام على يد المريض المسلم، الذي أخبره بثقة وإيمان أن الأعمار بيد الله، وأن الطبيب ليس له دور في تحديدها سرعة أو بطأ.
وخامس يدخل الإسلام لما رأى من تآلف من المسلمين، في زيارة المرضى، حيث كان ينام معه في غرفة المستشفى مريض مسلم، فاستغرب من كثرة زائريه على مختلف جنسياتهم بما فيهم الأمريكان.
وهنا نتساءل: ما هـو دورنا كأفراد تجاه الدعوة ؟؟ هـل تقتصر على تحميل عبئها من يتقاضون الأجر، أو من يعهد إليهم بالمهمة بصفة رسمية؟ وهل نستعمل الشدة، ونحاول قسر الناس على اتباع ديننا، دون وعي وتفهم ؟؟
لعل الجواب في عمومه وشموله، يبرز من كلام أحد المستشرقين الذين درسوا الإسلام وحللوا معانيه.. ومما جاء فيه: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم قولا وعملا، وسلوكا ومنهجا، لتغير وجه الأرض، ولما احتاجوا إلى إجراءات أمنية بالمحاكم، والشرطة، والسجون والإصلاحيات؛ لأن تعاليمه كلها أمن، ومبادئه تلبي رغبات النفوس وراحتها، ولسوف تدخل معهم
أوروبا وبلاد الغرب في هـذا الدين، الذي يلبي احتياجاتهم، ويهدي نفوسهم المتذبذبة، ويطمئن قلوبهم القلقة، فهم يبحثون عن شيء لا يوجد إلا في الإسلام وقيمه.