معوقات في وجه العمل..
ولكن مسئولية المسلم في المجتمع الأمريكي لا تكون بدون تكاليف وعقبات، وهذا ينقلنا إلى القسم الرابع وهو المعوقات التي تواجه العمل الإسلامي في أمريكا. وهذه المعوقات نوعان: داخلية وخارجية.
ولقد اخترت أن أركز -هنا- على المعوقات الداخلية لأنها هـي الخطر الحقيقي.. وما كسبت أيدينا وما نختزنه في أنفسنا، أخطر علينا مما كسبته أيدي غيرنا وما هـو في نفوس سوانا، ولعل من أكبر أسباب تزامن المرض في المجتمع الإسلامي أنهم يبحثون دواما عن دور الاستعمار ولا يشخصون في أنفسهم مرض -القابلية للاستعمار- كما يقول
مالك بن نبي رحمه الله.
وأول المعوقات التي تواجه العمل الإسلامي في
أمريكا : هـو التناقضات التي نقلها الوافدون من بيئاتهم الأولى، والتي تلون الكثير من أنماط السلوك والعلاقات والنشاطات بين هـؤلاء الوافدين، فنحن نعلم أن العاملين في النشاط الإسلامي في أمريكا والجماعات الممثلة للمسلمين لم تأت من بلد واحد، ولم تتخرج من مدرسة إسلامية واحدة، وهي تتفاوت في خبراتها الإسلامية، بل منها عناصر لا تزال تمارس العلاقات الإسلامية كلون من الانتماء الطائفي في مجتمع متعدد الطوائف والقوميات. أضف إلى ذلك أن البيئات الأولى التي ينتمي إليها الوافدون هـي بيئات تعاني من طغيان الحزبية والمذهبية والإقليمية وبعض قيم الجاهلية التي سبقت الإسلام في كل منطقة.
ولقد ترتب على هـذه التناقضات، أن المسلمين في أمريكا يمارسون ازدواجية متناقضة في التنظيم والعلاقات، فإذا كان الاغتراب والخوف من الضياع قد جمعهم في وحدة عامة استمدت شعارها من الإطار الإسلامي الواسع، فإن استمرار التناقضات المذكورة أوجدت داخل هـذه الوحدة اتحادات إقليمية وحزبية
[ ص: 138 ] وجمعيات عرقية تتوزع جماعات المسلمين حولها وتزجهم في منافسات وصراعات حول القيادة والإدارة وأساليب الطرح الفكري وممارسات الشعائر ، وتبذر بينهم بذور الخلاف والشك وعدم الثقة والتآمر وإقامة المحاور الجانبية، وتعيقهم عن الاندماج الكامل في إطار الوحدة العامة التي يحسب لها الآخرون حسابا كبيرا يقرأون شعار الاتحاد الإسلامي في
الولايات المتحدة وكندا .
والواقع أن هـذه الظاهرة إنما تنبع من تاريخ مشترك في مرحلتين متناقضتين: مرحلة عاشها المسلمون في الماضي امتدت لمئات السنين جمعتهم خلالها قيادة واحدة ومجتمع واحد وانتماء واحد، ومرحلة يعيشها المسلمون في الحاضر ويكاد يصبح عمرها مقدار قرن من الزمان تتقاسمهم فيها وحدات سياسية متعددة: إقليمية القيادات، إقليمية المجتمعات والسياسات. وتتقاسمهم فيها جنسيات متعددة وانتماءات مذهبية وحزبية متعددة كذلك تمارس -في الغالب- إرهابا فكريا ضد بعضها بعضا، ولا تسمح بالاختلاف في الرأي أو الاجتهاد .. والمسلمون في
أمريكا ، يتأرجحون بين هـذين اللونين من التاريخ المشترك، فإذا كانت مرحلة التاريخ المشترك الأولى -مرحلة الوحدة والازدهار في الماضي- تجمعهم ضمن اتحاد قاري واحد، فإن مرحلة التاريخ المشترك الثانية -مرحلة التجزئة والتخلف في الحاضر- وتفرقهم ضمن تجمعات إقليمية أو حزبية تتنافس -داخل الاتحاد الإسلامي الكبير- على القيادة والنشاطات والممارسات الإدارية.. وعند هـذه الظاهرة، ينتج كثير من أشكال الصراع وتفتيت الجهود. ولا بد أن نتذكر هـنا أن القيادات السياسية والعقائدية والمذهبية في ( الأوطان ) الأم، لها أثرها كذلك في تشكيل العلاقات والنشاطات الجارية بين المسلمين في أمريكا.
والمطلوب في المسلمين أن يحيطوا هـذه الظاهرة وتفاصيلها، وأن ينشئوا مؤسسة خاصة للبحث والدراسة والتقويم هـدفها مساعدة التجمع الإسلامي في أمريكا على تشخيص مشكلاته وبلورة الحلول الملائمة، وعلى
[ ص: 139 ] المسلمين في أمريكا أن يبلوروا جيدا استراتيجية واضحة تعي مبدأ التنوع والوحدة الذي يمارسه غيرهم ويؤثر في قوتهم، فإذا كان اتساع
القارة الأمريكية ، وتنوع الاختصاصات والحاجات يفرض التعدد في المراكز والهيئات الإسلامية، فإن وحدة الهدف وصوابية المنهج تفرض عليهم الوحدة والتنسيق في التخطيط والتنفيذ.. أما التعدد الذي يصدر عن ماض مشترك مجزأ، وإقليميات حاضرة أو ماضية كذلك، وانتماءات مذهبية أو حزبية متعصبة، وعادات وقيم انحدرت عن ماض بعيد سبق الإسلام، فهذه يجب وأدها وتركها حيث هـي في الماضي البعيد والأمكنة البعيدة عبر المحيط، وإسقاطها من مناهج العمل ومحاورة الانتماء ومناهج التعليم وألوان الإدارة.. وعلى المسلمين في
أمريكا أن يدركوا أن المؤسسات ومراكز الدراسات الاستشراقية المتخصصة في العالم الإسلامي -منذ زمن- في الآثار الماضية عن محاور ولاء إقليمية وعرقية ومذهبية، ثم تبعثها في مناهج التعليم، وممارسات الإدارة وألوان الفن الشعبي لتطور تاريخا مشتركا معاصرا يكرس التجزئة ويدفع بالأمة إلى مزيد من التفتت حتى تصبح العشيرة هـي الوحدة السياسية في العالم الإسلامي
>[1] .
ولحكمة أرادها الله، ألغيت الأديان السابقة بعدم الحفاظ على نصوصها من التحوير والضياع حتى لا تقف عائقا أمام الرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام..
وثاني المعوقات: هـو التطرف والتسرع والطفرة وعدم الوقوف على قوانين التغيير في الإسلام والافتقار إلى استراتيجيات تسترشد بالهدف الثابت البعيد، وتكتيكات تراعي المتغيرات المحيطة، ولا بد من الانتباه لأمرين:
الأول: أن ( الإسلام في
أمريكا ) يتعرض الآن للفحص والمراقبة الدقيقة من قبل الهيئات التي لا ترضي له أن يمد جذوره في أرض المجتمع الأمريكي وتخشى أن يلعب دوره في إعادة التوازن الاجتماعي في هـذه القارة.
[ ص: 140 ]
والأمر الثاني: أن العمل الإسلامي نفسه في العالم قاطبة يعاني من الحاجة إلى استراتيجية محددة تساعد على تجسيد ( الأيديولوجية ) التي ضحى لبلورتها جيل الدعاة منذ مطلع هـذا القرن حتى الستينات من.
وثمة مشكلة ثالثة يعاني منها العمل الإسلامي في
أمريكا ، هـي إخلاص الشباب -أو الطلبة- مع نقص خبرتهم، وخبرة البالغين مع الحاجة لرفع درجة إخلاصهم، فكثيرا ما دفع الحماس وقلة الخبرة الشباب من الطلبة والناشئة إلى بعث الاضطراب في سلم أوليات العمل بسبب تأثرهم العاطفي بما يجري في الوطن الأم من نكسات وهزائم وانتهاكات ، فكان من نتائج هـذا الحماس خلافهم مع القيادات التي قد تحتاج إلى نوع من التوازن بين الخبرة والإخلاص، فالمسلمون في أمريكا مطالبون بالحكمة والتريث وعدم إعطاء الفرص لتفتيت الجهود وإجهاض النتائج.
ورابع المعوقات: هـو الجهل بطبيعة المجتمع الأمريكي، والافتقار إلى استراتيجية إسلامية لطرح الإسلام في هـذا المجتمع، فالعمل الإسلامي في أمريكا يحتاج إلى بلورة استراتيجية محددة واضحة لمعالجة المشكلات الأمريكية حسب متطلبات المجتمع الأمريكي الثابتة، وواقعة الاجتماعي والتاريخي..
إن عدم وجود استراتيجية مدروسة للطرح الإسلامي في أمريكا، يضعف من الإيجابيات الأمريكية نحو الإسلام وقضايا العالم الإسلامي، ويبقى النفسية الأمريكية فريسة التشويه والتصورات الخاطئة عن الإسلام، فالمؤلفات والترجمات الإسلامية التي طرحت في الساحات الأمريكية -ما عدا القرآن والحديث والعبادات- كثير منها لا يناسب العقلية الأمريكية، ولا يتفاعل مع مشكلات المجتمع الأمريكي، ويجهل جهلا تاما الأصول التاريخية والاجتماعية لهذه المشكلات. كذلك يتخلل هـذه الترجمات كثير من الموضوعات التي كتبت في الأصل لمعالجة مشكلات العالم الإسلامي، وهذه لا تفيد كثيرا في جذب الأمريكيين، وقد تسهم إسهاما سلبيا في تأثير الإسلام هـناك، من ذلك: بعض الموضوعات التي كتبها أمثال الأساتذة:
أبو الأعلى المودودي ،
[ ص: 141 ] وأبو الحسن الندوي ،
وسيد قطب ، ذلك أن هـذه الموضوعات إنما كتبت لمعالجة مشكلات العالم الإسلامي لا مشكلات المجتمع الأمريكي، وكلا المجتمعين يعيش مرحلة تاريخية تختلف عن الآخر، ويعاني من مشكلات تختلف عن الأخرى، فالمجتمعات الإسلامية تعاني من حالة تخلف وضعف وتثاقل إرى الأرض، وتحتاج لبعث روح الجهاد والمنعة والإنتاج ، بينما المجتمع الأمريكي يعيش مرحلة الشره المادي ، وطغيان القوة، والخوف من ثورانها المدمر، ويحتاج إلى تلطف ذلك، وتنمية الروابط الاجتماعية الإنسانية، وتنمية روح السلام والإيمان.. فالبدء بترجمة الكتب التي تتحدث عن الجهاد والحض عليه في المجتمع الأمريكي، والتركيز على سلبيات الغرب، والتشهير بحضارته، والدعوة للثأر منه، بأسلوب عاطفي منفعل، قد يدعم ما يشيعه أعداء الإسلام حول ما يسمى ( بالإسلام القتالي ) Militant Islam كما فعل المستشرق
جوستاف فون جرونبوم حين استعرض كتاب -ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين-
للأستاذ الندوي ، وكتب
سيد قطب -رحمه اله - ليدلل على زعمه أن الكتابات الإسلامية الحديثة إنما تمهد لنازية إسلامية جديدة، تستهدف تدمير الغرب والإطاحة بحضارته، وقد تعصف بالعالم كله، وهو الشيء نفسه الذي فعله صحفيون من أمثال -
جون لافت - في كتابه (خنجر الإسلام ) Dagger of Islam،
وجانسن في كتابه ( الإسلام القتالي ) Militant Islam، وأمثال هـذين كثيرون يظهرون من آن لآخر على صفحات المجلات والصحف، وفي الإذاعات وعلى شاشات التليفزيون.
لذلك فإن الحاجة قائمة للبدء بأبحاث تبرز السلام الذي يمنحه الإسلام للفرد والمجتمع والعلاقات الإنسانية، وتبرز إعجاز الإسلام في عصر العلم، أبحاث تلبي حاجات الفرد والجماعة في المجتمع الأمريكي في الاطمئنان الروحي والأمن الاجتماعي والانتماء الفكري . وتعرفه كذلك بالأصول التاريخية والفلسفية والاجتماعية للمشكلات التي يعاني منها بأساليب تتناسب مع عقلية الأمريكي المتأثرة بالمنهج العلمي، وتطرح الحلول الإسلامية بإطار عالمي
[ ص: 142 ] يتناسب مع مشكلات الزمان والمكان، وقديما أدرك
الإمام مالك بثاقب بصيرته هـذا الفارق في المكان والزمان، حين رفض أن يفرض فقه على الأقطار الإسلامية كافة ناصحا
الخليفة المنصور العباسي أن يترك لكل بلد فقهه الذي يلائمه.
ولقد اخترت أن لا أخوض في المعوقات الخارجية لأمرين: الأول أن هـذه المعوقات تحتاج إلى دراسات خاصة قائمة على التنقيب والتحليل والبحث . والثاني أنها ثمرة أفهام خاطئة عن الإسلام انحدرت من عصور الحروب الصليبية وتعززها ممارسات منحرفة من عناصر تنتمي إلى العالم الإسلامي المعاصر، أو نتيجة العلاقات السياسية السلبية الجارية على المسرح الدولي، ولذلك اكتفى بالقول: أن المسلم يبطل فاعلية هـذه المعوقات أو يضعفها حين يتوجه للغاية بحكمة وبصيرة، وحين يلتزم الهدف بتجرد وإيمان، وحين يبصر الإنسان الأمريكي دور الإسلام في إنقاذه وإنقاذ هـذا المجتمع من أزمته التي تهدده.
هذا عرض موجز لرسالة المسلم في المجتمع الأمريكي بأهدافها وغاياتها، ومتطلبات العمل في سبيلها.. ولعل جزالة المثوبة التي أعدها الله للعاملين المصلحين، ونبالة الأهداف وسمو الرسالة وحاجة الإنسان الأمريكي للإنقاذ، وخطورة بقاء هـذا المغولي الجديد على مغوليته، وكل ذلك يشكل دافعا يجعل المسلم يعلو فوق العقبات والمؤثرات حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
>[2] [ ص: 143 ]