1- تصنيف القدرات العقلية, وتحديدها
القدرات التي يشير إليها القران هـي: قدرة العقل, وقدرة التأويل, وقدرة التدبر, وقدرة الفقه, وقدرة التذكر، وقدرة النظر، وقدرة الشهود، وقدرة الإبصار، وقدرة الحكمة.
وليس هـناك – في القران – ما يصنف لنا هـذه القدرات حسب درجاتها وعلاقاتها في سلم العمليات العقلية. فهذه أمور متروكة للبحث والدراسة, التي يطلب إلى الإنسان القيام بها. ولكن القرائن التي ارتبطت بهذه القدرات عند الإشارة إليها, تعطينا إيضاحات لمراد القران, عند ذكر كل قدرة من هـذه
[ ص: 52 ] القدرات المشار إليها.
فـ " قدرة العقل " تشير قرائنها إلى أنها القدرة على خزن المعلومات, واسترجاعها, وتوظيفها عند الحاجة إليها، وهي شاملة لجميع القدرات.
أما " قدرة التأويل " فقد اقترنت في القرآن بالقدرة على إدراك التطبيقات العملية، التي تقابل التقريرات النظرية, أو بالعكس. ومن أمثلتها قدرة
يوسف عليه السلام على تقديم التفسيرات والمقترحات التي تقابل الأفكار والرؤى التي عرضت عليه, أو قدرة
الخضر على تفسير ما علمه خلال رحلته مع
موسى عليه السلام .
وأما " قدرة التدبر " فقد اقترنت الإشارة إليها بالقدرة على الربط بين المقدمات والنتائج، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هـذه النتائج، ومن أمثله ذلك قوله تعالى:
( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (النساء:82) .
( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد: 22-24) .
وأما " التفكر " فهو قدرة تشير إلى استعمال المهارات العقلية كلها للوصول إلى الحقيقة. ولقد تكررت الإشارة إلى ( التفكر ) في تسعة عشر (19) موضعا من القران الكريم.
أما " التذكر " فهو قدرة عقلية تشير إلى القدرة على استرجاع الخبرة, ورؤية جانب الصواب فيها.
وأما " النظر " فهو قدرة عقلية, يشترك معها قدرات السمع والبصر للكشف عن المجهول. ولقد عرف
ابن تيمية – قدرة النظر – فقال:
[ ص: 53 ]
" .. والنظر جنس تحته حق وباطل, ومحمود ومذموم "
>[1]
أي ليس من الضروري أن تكون حصيلة النظر دائما صائبة, بل هـي تصيب وتخطئ، تبعا للطريقة التي تستعمل بها..
ولقد تكرر ذكر – قدرة النظر – في القرآن عند الدعوة إلى النظر في مظاهر الكون عامة ومفصلة, وفي تكوين الإنسان نشأته ومصيره.
وأما " الشهود " فهو قدرة عقلية تشترك معها القوى الحسية كذلك, ولكنها تختلف عن قدرة النظر في أن ثمرتها صائبة صحيحة.
وأما " الإبصار " فهو قدرة عقلية تساعد على دقة الفهم، والتعمق في تحليل الظاهرة وكوامنها.
وأما " الحكمة " فهي قدرة عقلية على فهم العلاقات النظرية, ومهارة عقلية حسية على تحويل العلاقات المذكورة إلى تطبيقات عملية, وتصويبها ورعايتها, وهي تقابل الخبرة المتخصصة, والحكيم يقابل الخبير المتمكن في مصطلحاتنا المعاصرة
ونحن، وإن قدمنا هـذه الأمثلة القرآنية للقدرات العقلية, فلا يعني ذلك أن المنهج الملائم للكشف عن هـذه القدرات, والوقوف على دقائقها, ووظائفها, هـو من خلال البحث النظري في القرآن, أو من خلال الاشتقاقات اللغوية، كما كان – ولم يزل – شأن الكثيرين من المفسرين والأصوليين والفقهاء والمتصوفين، وإنما نسترشد بالإشارات القرآنية العامة، كمقدمة توجه إلى ضرورة قيام المختصين بالتجارب العملية, التي تهدف إلى الوقوف على القدرات العقلية ووسائل تنميتها، والتدريب على استعمالها.
فهذا هـو الذي يتفق مع – منهج المعرفة الإسلامية – الذي أشرنا إلى تفاصيله في كتابنا, فلسفة التربية الإسلامية – حين ذكرنا أن الوحي يقدم ( الخبر الصادق ) تماما كما يقدم المنهج العلمي الحديث ( فريضة البحث) ,
[ ص: 54 ] وأن الخطوة التي هـي اختبار صدور هـذا الخبر في ميدان – الآفاق والأنفس – للاطمئنان إلى صدقه – كما قال
إبراهيم عليه السلام - و ليحصل العلم الموصل إلى الإيمان واليقين.