5- تربية القدرات العقلية عند المؤسسات التربوية الإسلامية قديما وحديثا
في المصادر الإسلامية التاريخية، إشارات على أن المشتغلين بالتعليم في القرون الأولى, انتبهوا للقدرات العقلية, واشتغلوا بتصنيفها. وأولى الإشارات المباشرة, هـي تصنيف
سفيان الثوري (المتوفى عام 148هـ ) والذي صنف القدرات العقلية, بعد أن دمجها بالمهارات الحسية المرافقة, إلى مايلي:
الإنصات, ثم الاستماع, ثم الفهم، ثم العمل، ثم النشر.
وتابعه في تصنيف هـذه القدرات تلميذه المباشر
عبد الله بن المبارك الذي صنفها بقوله:
" أول العلم النية, ثم الاستماع, ثم الفهم, ثم الحفظ, ثم العدل، ثم النشر "
ولقد جمع
أحمد زروق مختلف التصنيفات في قاعدة عامة هـذا نصها:
[ ص: 75 ]
" لكل شيء وجه.. فطالب العلم في بدايته, شرطه الاستماع والقبول, ثم التصور والتفهم, ثم التحليل والاستدلال, ثم العمل والنشر.. ومتى قدم رتبة عن محلها, حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة, ومحصل دون تصور لا عبرة به, وصورة لا يحصنها الفهم لا يفيدها غيره, وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر, وما لم ينتج فهو عقيم.. والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع, وهو قبول الحق لحسن الخلق، ومتى كثر العدد انتفيا, فاقتصر ولا تنتصر, واطلب ولا تقصر, وبالله التوفيق " .
>[1]
كذلك ظهرت بعض التصنيفات التي حاولت التعريف بالعقل ومظاهرة, مثل:
ابن حبان الذي وضع كتاب ( روضة العقلاء ونزهه الفضلاء ) ومثل:
المحاسبي الذي وضع كتاب (المسائل في أعمال القلوب والجوارح والمكاسب والعقل) ومما قال فيه:
" العقل له ثلاثة معان: الأول: غريزة يعرف بها الإنسان ما ينفعه وما يضره. والثاني: الفهم والبيان, والثالث: البصيرة والمعرفة بقدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة "
>[2]
ثم تفرع الحديث حول العقل عند مختلف المفكرين والمدارس الفكرية والتربوية, مثل مدارس الفقه, وعلم الكلام,
والمعتزلة ,
والأشاعرة , والتصوف والفلسفة, ودارت مجادلات حول العقل, وماهيته, ومكانته, وعلاقته بالوحي.
ويلاحظ على هـذه الدراسات ومجادلات عدة أمور:
الأول: أنها في جميع أعمالها في ميدان العقل، لم تعتمد المنهج العلمي
[ ص: 76 ] التجريبي, وإنما اعتمدت على الاشتقاقات اللغوية، والتأملات الفلسفية, أو نقل مفاهيم
اليونان وأمثالهم عن العقل. أي أنهم لم يعطوا التجارب العلمية ما تستحقه من عناية، كما هـي حال علم النفس المعاصر.
والأمر الثاني: أن الجدال الدائر لم يصل إلى نتائج حاسمة, حول ماهية العقل, وآثاره, إذ يلاحظ أن الأكثرية ظلت تعتبر العقل جوهرا مستقلا، وتعكس كتابات أمثال
ابن مسكويه ,
والغزالي ، وعلماء
المعتزله ,
والأشاعرة , وغيرهم, هـذا التصور. ولقد انعكست هـذه الاختلافات –حول العقل– على طريقة فهم القرآن, وتكوين العقيدة, وظهور اتجاهات الزندقة, فكان لذلك آثار سلبية, أهمها توقف البحث في القدرات العقلية وتنميتها, ثم انحسار أجواء الحرية العقلية واضطهاد الخائضين في هـذا الميدان.
وأخيرا انتهت تربية القدرات العقلية ومهارات التفكير إلى حالتين:
الأولى: الوقوف عند العناية بالقدرة على الحفظ, كما هـو الحال في مؤسسات التربية العاملة في ميدان الفقه, والعلوم الدينية.
والثانية: تقليل قيمة القدرات العقلية, وإهمالها إهمالا كاملا, كما هـو واضح عند
الصوفية , وفرق
الشيعة , حيث حصرت الأولى منهج المعرفة بما أسمته الإلهام, وحصرته الثانية في شخص الإمام.
ومن الإنصاف أن نقول: إن (مؤسسات التربية الحديثة) التي أقيمت على النمط الأوروبي, هـي كذلك تهمل القدرات العقلية، ولا تنمي إلا " القدرة على الحفظ " , وذلك لعاملين:
الأول: النشأة الأولى للعاملين بها في محاضن البيئة العربية الإسلامية التقليدية, التي اعتادت على إهمال القدرات العقلية المبدعة, والاقتصار على قدرة الحفظ.
والثاني: أزمة الحرية الفكرية التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة في البيئات المذكورة.
[ ص: 77 ]
فالمؤسسات التربوية التقليدية والحديثة يتشابهان في إهمال القدرات العقلية المبدعة, ولا يهتمان إلا بالقدرة على الحفظ والاستظهار. ويتضح ذلك من أمرين:
الأول: اقتصار العناية على السرد والرواية من المدرس, والحفظ من الطالب. وما يسرده هـو من خارج واقع المجتمع الحاضر, وبعيدا عن مشكلاته. ففي المؤسسات التربوية الحديثة " يقص " المعلم, أو الدكتور، على الطلبة سير العلماء والرواد الغربيين ومنجزاتهم في ميادين العلم والتربية والاجتماع, وفي المؤسسات التربوية الإسلامية يقص " الشيخ " أو " الدكتور الشيخ " على الطلبة سير الآباء ومنجزاتهم.
والأمر الثاني: أن الطلبة في كلا النظامين يقومون بدور المستمعين, الذين يسلخون من أعمارهم حوالي ربع قرن, أو ثلثه, أو نصفه, وهم يعيدون ويكررون ما يروى لهم من الأساتذة, ولا يطلب منهم إلا استظهار ما يسمعونه, ولا يتهيأ لهم فرص التطبيق والتحليل, أو التفكر, والتذكر, والتدبر، والفقه.
إن وقوف المؤسسات التربوية المذكورة – في تربية القدرات العقلية – عند القدرة على الحفظ, أو الاستظهار, يفرز آثارا سلبية أهمها:
1- يلاحظ على الإنسان العربي، والمسلم المعاصر أنه يستطيع أن يروي ويخطب, ولكنه لا يستطيع أن يناقش, أو يحلل, أو يطبق, ويتوصل إلى حل, لأن الرواية والخطبة ترتبطان بالقدرة الأولى – أي القدرة على الحفظ – أما النقاش والتحليل والتطبيق، فهو يتطلب قدرات عقلية عليا من الفهم والتحليل والتأليف والتطبيق. وينعكس هـذا العجز على علاقات الأفراد ومواقفهم. فالخطيب أو المتحدث يريد في جميع أحواله أناسا يستمعون له ويصفقون, لا أناس يناقشون, ويعارضون, وحين يستدعي الموقف قدرات عقلية تتعدى الحفظ, تنفجر الانفعالات, ويثور الخلاف، وينفجر التعسف المخرب !!
[ ص: 78 ]
2- قلنا: إن ( الإرادة السليمة ) هـي ثمرة: (وظيفة العقل+المثل الأعلى)
أي: هـي ثمرة القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم, + (المثل الأعلى) ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية المعاصرة أن المعادلة في الواقع تتشكل كما يلي:
قدرة على الحفظ + مثل أعلى = إرادة متهورة (تعصب) .
لذلك فالتربية المعاصرة في أحسن أحوالها تفرز شعورا دينيا, أو شعورا وطنيا, ولا تفرز (فقها وطنيا) ,أي أنها تؤدي الى " العقم الإرادي " , والاغتراب عن مثل الماضي والحاضر، والإحساس بالنقص إزاءهما.
3- قلنا: إن ( القدرة التسخيرية ) هـي ثمرة: ( وظيفة العقل + الخبرات ) ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية المعاصرة هـي أن المعادلة تتشكل كما يلي:
قدرة على الحفظ + الخبرات = قدرة غير تسخيرية.
أي أنها تؤدي الى ظاهرة " العقم العقلي " وعدم الاستفادة من الخبرات العلمية والاجتماعية والدينية.