3- التربية الإسلامية و المثل الأعلى
والدور الذي تقوم به التربية الإسلامية في تنشئة الفرد على تعشق المثل الأعلى وتجسيده في حياته, يتكون من فصلين اثنين:
الأول بلورة المحتوى الفكري للمثل الأعلى, ثم ترجمة هـذا المحتوى في تطبيقات عملية.
والثاني هـو عرض المحتوى المذكور, وتهيئة المواقف والوسائل اللازمة لممارسة التطبيقات الممثلة له.
ويحتاج كل جيل أن يتبين نموذج المثل الأعلى, الذي يبني مستقبله طبقا له في ضوء الأصول التي يتضمنها القرآن والسنة، وفي ضوء حاجات العصر والمرحلة, ومواجهة التحديات القائمة. فالمثل الأعلى – إذن – نتاج فقه
[ ص: 83 ] بشري، وإن كانت أصوله إلهية؛ لأنه هـو فهم القائمين على التربية لنموذج الحياة التي يراد بنائها. وهذا الفهم قد يكون صحيحا, أو قد يكون خاطئا, أو قد يكون خاطئا جزئيا, وهو أيضا محدود الزمان والمكان.
وفي جميع هـذه الحالات يؤدي اختلاف الفهم إلى إفراز نماذج مختلفة من المثل الأعلى يمكن تصنيفها كما يلي:
أ – مثل أعلى حق, وتطبيق حق وهذا يعطي نتائج إيجابية في حياة الإنسان.
ومثاله ثمرات التربية النبوية, إذ استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالمثل الأعلى الحق, والتطبيق الصائب, لهذا المثل, أن يرفع إدارة الفرد المسلم إلى درجة بذل النفس والمال في سبيل خدمة الرسالة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم . وكذلك شهدت ثمار التطبيق العلمي وحقائق العلم, لقيمة هـذا المثل الأعلى، وانسجامه مع طبيعة الإنسان, وإسهامه في رقي النوع الإنساني.
ب – مثل أعلى باطل, وتطبيق جيد وهذا يعطي نسبة عالية من النتائج ومن أمثلته ( المثل الأعلى ) الذي طرحته بعض الفرق المتطرفة في التاريخ الإسلامي كالباطنية والحشاشين. ويقابله خارج إطار الحضارة الإسلامية ما حصل – في العصر الحديث – في أقطار
كاليابان وألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية , فقد استطاعت نظم التربية ومؤسسات التوجيه في كل منها, بالتطبيق الجيد, أن ترفع جنس بشري معين, واستعلائه على غيرة من الأجناس, وكما حصل في
الصين بعد الحرب العالمية الثانية, وكما هـو قائم في أقطار معاصرة.
جـ - مثل أعلى حق, وجهل في التطبيق وهذا يعطي أقل من سابقيه, وحتى ما بقى له من نتائج لا يرجع إلى مهارة في توليد الإرادة, وإنما إلى ما في المثل الأعلى من قوة ذاتية. وهذا ما حصل للأمة الإسلامية منذ عصور الجمود الفكري والتخلف التربوي، وهو, ما هـو قائم في واقع المسلمين المعاصرين الذين حفظهم الإسلام وليسوا هـم الذين حفظوه.
وقد يساء فهم هـذه الظاهرة – ظاهرة تخلف المسلمين – فلا ينسب هـذا
[ ص: 84 ] التخلف إلى العجز في نظم التربية والتوجيه والوعظ, القائمة في العالم الإسلامي, ولا ينسب - كذلك – إلى نوع المشتغلين بهذه المهمات, بل نظن أن السبب هـو الإسلام نفسه, ومثل هـذا الظن يوقع في البلبلة الفكرية , ويدفع كثيرا من أبناء المجتمعات الإسلامية إلى البحث عن " مثل أعلى " آخر بين المذاهب الفكرية والفلسفات الأخرى, خاصة إذا كانت هـذه المذاهب والفلسفات من النوع الثاني أي: مثل أعلى باطل وتطبيق جيد.
د - مثل أعلى باطل، وتطبيق باطل وهذا لا يمكن أن يأتي بنتائج قليلة أو كثيرة ومثال ذلك كثير من المفاهيم الخاطئة للإسلام كالتصوف المنحرف ، والدروشة , والمذهبيات الضيقة , وقيم العصبية البالية. ويقابلها الكثير من قيم الدكتاتورية المتخلفة في بعض أقطار العالم الثالث .
ولذلك كثيرا ما تلجأ الدول الكبرى – بناء على توصية الخبراء بها – إلى تصدير نماذج باطلة قديمة من تراث الماضي، ثم توجه أبناء هـذا العالم إلى تطبيق هـذه النماذج الباطلة تطبيقا باطلا. وعن هـذه النماذج من " مثل أعلى " الباطل تنتج الانتماءات الطبقية، والعصبية الضيقة, والحزبيات المتصارعة, والفتن الداخلية، وغير ذلك مما يناسب مصالح الدول الكبرى في الهيمنة والاستغلال.
ويمكن أن تنشأ عن كل من الأربعة للمثل الأعلى حركات تاريخية مختلفة، فالأول يكتسح العالم بسرعة, والثاني يحدث ضجيجا, وينجح إلى حد ما, والثالث يبقي ما في المثل الأعلى من صلابة ولكن دون استفادة منه, وهذه حالة الإسلام في العالم الإسلامي المعاصر، وهذه الحالة الثالثة هـي التي تقبل المراجعة والتغيير, ثم العودة بإصلاح الإنسان, وهو يدور حوله الكفاح والصراع في العالم الإسلامي, بين الذين يرون الحاجة إلى تطوير المثل الأعلى ويختلفون كثيرا في معنى التطوير, ففي حين يوجد أناس يريدون تغير المثل الأعلى, هـناك آخرون يريدون إعادة فهمه وتطبيقه على وجهه الصحيح, بينما هـناك فريق ثالث, يريدون الإبقاء على فهم المثل الأعلى كما تسلموه من
[ ص: 85 ] الآباء, دونما حاجة إلى تطوير.
>[1]
والفصل الثاني الذي تقوم به التربية في مجال تنشئة الفرد على تعشق المثل الأعلى هـو تطوير الاستراتيجيات التربوية , والأساليب والمؤسسات التي تسهم في تربية الفرد على المثل الأعلى بقسيمه الإعتقادي والسلوكي.
وفي العادة تكون ثمرات التطبيق التربوي متوازنة مع مستويات المثل الأعلى التي تطرحها النظم التربوية ومؤسساتها.
فإذا كان مستوى المثل الأعلى المطروح من النوع الأعلى, الذي يرقى بالنوع الإنساني، فإن المعلمين والمتعلمين يتصفون بالقيم, وتأكيد المثل الرفيعة، والولاء لاتجاهات الإصلاح, ويتصفون بالعمل الجاد, واستمرار النمو والتوسع في الدراسة، ومتابعة البحث في كل ما يتعلق بالموضوعات ويتلقطون الكتب والمراجع أنى وجدوها، ولا تكون مقررات الدراسة إلا دليلا لولوج باب التعلم المستمر والمعرفة الراسخة. أما على المستوى الاجتماعي– فإن المجتمع الذي يهيمن عليه هـذا المستوى العلى للمثل العلى– تسوده روح التكافل الاجتماعي الواسع, والاهتمام بإشاعة روح البحث العلمي، والنظر الكوني, لابتكار الأدوات والوسائل, التي تهيئ لانتشار المثل العلى ونجاحه في واقع الحياة. ويكون انتماء الأفراد لعالم الأفكار والعقائد, ويدور محور الولاءات حولها, وعليها تقوم صلاتهم, وتبنى معاملاتهم.
وإذا كان مستوى المثل الأعلى من النوع الأوسط, الذي يستهدف المحافظة على النوع البشري وبقائه, فإن محور الاهتمامات يتركز حول الوسائل دون الأهداف أي يجرى التركيز على الميادين العلمية والصناعية, دون البحث على غايات الحياة ومقاصدها العليا, فتمثل العلوم الطبيعية والصناعية المكانة الأولى، وتتراجع العلوم الإنسانية إلى المكانة الأدنى. ويكون انتماء المعلمين والمتعلمين للمهنة أكثر من انتمائهم للفكرة والقيمة. أما على المستوى
[ ص: 86 ] الاجتماعي, فيكون محور الولاء عندهم للمصالح الطبقية والقومية, وعليها تدور علاقاتهم, وتقام صلاتهم.
أما إذا وقف مستوى المثل الأعلى عند النوع الأدنى، الذي يستهدف تلبية حاجات الجسد البشري فحسب، فإن المعلمين والمتعلمين تتركز جهودهم حول قضايا شخصية آنية, تكون لدى المعلم الحصول على دخل مادي مناسب, ووظيفة مناسبة، وتوفر الرفاهية, وأدوات الاستهلاك المادي.
وعند المتعلمين تقف نشاطاتهم عند الحصول على العلامة العالية، والشهادة والدرجة العلمية, الموصلة لأهداف الرفاهية، والمكانة الاجتماعية, ويكتفون بالكتب المقررة، ويحاورون في حذف الفصول عند الامتحانات, ويلقون بالكتب بعد اجتيازها, ويتوقفون عن البحث والدرس. أما على المستوى الاجتماعي, فتدور محاور الولاء حول المصالح الأنانية, وليس للأفراد انتماء إلا ما كان من شهواتهم, يرحلون حيث ترحل، وينزلون حيث تنزل.
[ ص: 87 ]