خامسا: تنمية القدرة التسخيرية
1- معنى القدرة التسخيرية القدرة التسخيرية هـي المركب الثاني لـ " العمل الصالح " الذي هـو صفة الفرد الذي تستهدف التربية الإسلامية إخراجه. وهي تعني القدرة على اكتشاف قوانين الخلق، في الكون والنفس، واستثمارها في تطبيقات نافعة لبقاء النوع البشري ورقيه. وهذه القدرة هـي ثمرة تفاعل القدرات العقلية مع الخبرات الكونية والنفسية، اللتين استعرضناهما فيما مضى. والقدرة التسخيرية التي توجه إليها مصادر التربية الإسلامية – خاصة القرآن الكريم – نوعان: قدرة تسخيرية في ميادين الكون، وهي القدرة على اكتشاف قوانين عناصر الكون، ثم تحويل هـذه القوانين إلى تطبيقات وممارسات صائبة.. و قدرة تسخيرية في ميدان النفس، وهي القدرة على اكتشاف قوانين السلوك الإنساني، وتفاعلاته في حياة الفرد، أو ممارسات الجماعة عبر الرحلة البشرية على الأرض، ثم الاستفادة من هـذه القوانين في تعبئة طاقات الأفراد والجماعات، لتحسين حياة الإنسان، والرقي بالنوع البشري، وتأمين سلامته حسب المنطلقات والمبادئ التي تتفق مع قوانين الخلق وتوجيهات الوحي. والقرآن يطلق على هـذه القوانين اسم " السنن " ، ويحث الإنسان على البحث عنها، واكتشافها، والتفكر بعملها، وتتبع آثارها في الوجود الكبير كله. ولقد استطاع الإنسان – حتى الوقت الحاضر – أن يقطع أشواطا كبيرة في [ ص: 115 ] تحقيق القدرة التسخيرية في ميادين الأشياء الكونية. إذ بواسطة هـذا الإنجاز كشف الكثير من قوانين الكون، وطور التكنولوجيا ، وسخر الكثير من مخلوقات الأرض وكنوزها، وخاض عباب المحيطات، وجاب الفضاء، ونزل على سطح القمر، وتقدم في فهم قوانين الصحة والمرض وغير ذلك. كذلك استطاع الإنسان الوقوف على جانب غير قليل من قوانين النفس والسلوك، فاستطاع من خلال ذلك تسخير إمكانات النفس البشرية، وطاقاتها للتأثير في الأداء الإداري والتنظيمي والعسكري، وتوجيه الرأي العام والتأثير في المعتقدات والاتجاهات. ويشير القرآن الكريم إلى أن القدرة التسخيرية في ميدان النفس والاجتماع سوف تتطور وتتقدم، حتى تستخرج قدرات الإنسان الأخلاقية والإيمانية، ثم تنميتها وتمكنها من توجيه السلوك البشري، والمنجزات والممارسات بالشكل الذي يبرز علم الله في الإنسان إلى عالم الواقع، فلا يعود يسفك الدماء، أو يفسد في الأرض. وفي التاريخ شواهد محسوسة على أن الرسل والأنبياء الذين أحكموا القدرة التسخيرية في ميدان النفس، استطاعوا الارتقاء بنماذج من البشر إلى الدرجة التي يتطلع إليها الإنسان في الكمال والمثالية. والتوسع في ذلك يحتاج إلى مزيد من القدرة التسخيرية في ميدان النفس والاجتماع، ويحتاج إلى تطوير مفاهيم جديدة للعلم والتربية، وهو الأمر الذي تتوجه إليه أصول التربية الإسلامية. لقد أستطاع الإنسان من خلال اكتشاف قوانين الكون المحسوس، وتسخير هـذه القوانين، أن يعرف كيف يتعامل مع مكونات هـذا الكون، وتسخيرها لتحسين حياته والارتقاء بوجوده المادي، والتغلب على كثير من الأخطار والمصاعب التي تواجهه. فالإنسان حين سخر قوانين الهواء والفضاء – كالجاذبية مثلا – صار يعرف كيف يصنع المركبات، ويجوب الفضاء، ويدور حول الأرض في ساعات. ولكنه إلى جانب ذلك, صار يعرف بالبداهة أن القفز من مراكب الفضاء والطائرات دون مراعاة للقوانين التي تسيرها لا بد وأن يؤدي به إلى الحتف المؤكد. ولذلك هـو لا يأتيه أبدا إلا بما يتفق وهذه [ ص: 116 ] القوانين، كاستعمال مظلات القفز المعروفة باسم " الباراشوت " وأمثالها. ولكن جهل الإنسان –أو عدم إحاطته- بالقدرات الأخلاقية وبقوانين النفس والسلوك، ما زال يضعه في موضع العاجز عن توجيه عربة السلوك الأخلاقي والاجتماعي، بل إنه في كثير من الأحيان ليقفز من هـذه العربة قفزة الجاهل البدائي، فيتحطم وتتناثر أشلاؤه، ولا يعتبر بالنتائج المدمرة التي تعقب هـذا القفز.
التالي
السابق