1- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية
من الواضح أن ثمرة التطبيقات التربوية الجارية في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية - فيما يتعلق بتربية الفرد – تقتصر كثيرا عن المستوى الذي كانت تخرجه مثيلاتها في عصور الازدهار. كذلك ليس لدى هـذه المؤسسات صورة واضحة عن – نموذج الإنسان – الذي يجب إخراجه في ضوء المواصفات التي مر شرحها عن شخصية " الفرد الصالح – المصلح " .
ويمكن القول: إن الأزمة تتركز فيما يلي:
صحيح أن هـذا الانحسار قد حدث منذ قرون، وهو بعض نتائج الانشقاق الذي حدث بين العلوم الدينية، وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية، في
[ ص: 144 ] أ- انحسار مفهوم " العمل الصالح " وحصره في ميادين العبادة والأخلاق الفردية
الحضارة الإسلامية
>[1] ولكن المؤسسات التربوية الحاضرة، تسلمت هـذا المفهوم دون مراجعة أو تقويم، رغم عدم الفاعلية الذي يلازمه. ولقد ترتب على هـذا الانحسار لمفهوم " العمل الصالح " عدة نتائج سلبية أهمها:
النتيجة الأولى: إن حصر " العمل الصالح " في العبادات وانحساره من ميادين القدرات التسخيرية، والإنتاج واستغلال المصادر، والكشف العلمي، أدى إلى شيوع الجبرية والكسل، وما ينتج عنهما من مضاعفات.
والنتيجة الثانية: إن حصر " العمل الصالح " في الأخلاق الفردية وانحساره من ميادين العلاقات الاجتماعية، أدى إلى حصر المثل العليا الإسلامية في السلوك الفردي، بينما صار الفرد المسلم المعاصر, لا يستجيب للنظام, ولا يهتم بشئون الآخرين, ولا بتسهيل أمورهم ومراعاة حاجاتهم حتى انه ليعيش هـذا التناقض بين السلوك الفردي، والسلوك الجماعي, وهو يمارس الشعائر الدينية كالصلاة والحج. ولقد انسحبت هـذه الظاهرة على حياة المجتمعات الإسلامية المعاصرة, فصارت نموذجا غير صالح للإسلام، عند من يتعامل مع هـذه المجتمعات من غير المسلمين.
والنتيجة الثالثة: إن حصر " العمل الصالح " في العبادات والأخلاق الفردية دون الميادين الاجتماعية والكونية، قد أدى إلى العناية إلى بـ " الأهداف العامة " , وإهمال " الأهداف التعليمية " , أو نقول : أدى إلى العناية بـ " الغايات " , وإهمال " الوسائل " , وبذلك صارت الأهداف مثاليات غير قابلة للتطبيق.
[ ص: 145 ]
النتيجة الرابعة: أن حصر مفهوم " العمل الصالح " في الميادين الدينية دون الميادين الاجتماعية والكونية, أدى إلى تشويه معاني المصطلحات المتعلقة بمظاهر " العمل الصالح " , وأخرجها عن مدلولاتها الأصلية. فمثلا انقلب معنى " الصبر " من الصبر على مواجهة التحديات, ومقارعة الشر، إلى الصبر على المرض, والجهل, والفقر, والظلم, والهزيمة, والتخلف.
وانقلب معنى " الزهد " من زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل المثل الأعلى , وصار عجز الفقراء والقاعدين عن العمل, والراضين بالضعف والهوان. وانقلب معنى (التوكل) من الثبات بعد استكمال الاستعداد والتخطيط, فصار تبريرا للارتجالية والفوضى وعدم الأعداد. وانقلب معنى " التسليم للمشيئة الإلهية " , فصار تبريرا للتراخي، وعدم الانجاز, بعد أن كان تصميما على مواجهة المصاعب والتحديات، ماعدا مشيئة الله.
والنتيجة الخامسة: إن حصر مفهوم " العمل الصالح " في الميادين الدينية، أدى إلى إهمال المؤسسات التربوية للقدرات والمهارات التي يتطلبها العصر.
ب- غموض نموذج " المثل الأعلى "
لا تقدم المؤسسات والنظم التربوية الإسلامية التقليدية نموذج المثل الأعلى الذي يتفق مع الأصول الأولى في القرآن والسنة، ويلائم حاجات الحاضر وتحدياته. ولكنها تكتفي بعرض صور منتقاة من " المثل العليا " التي أفرزها " فقه الآباء " في العصور المختلفة، وأحيانا تكتفي بمدح هـذه النماذج دون عرض تفاصيلها عرضا مقرونا بالانتقاص من " مثل السوء " , القائمة في الحاضر. وتكون النتيجة لذلك عزل المتعلم عن الحاضر، وإحساسه بالنقص إزاء الماضي، مما يورثه العجز والاغتراب.
ويزيد في المشكلة المشار إليها أن الموروثات الاجتماعية والثقافية القائمة في البيئة المحلية تفرز عقليات قاصرة وغير مكتملة النمو. كذلك تسهم أساليب
[ ص: 146 ] التربية القائمة على إلقاء التعميمات النظرية من وجهة نظر واحدة في حدة المشكلة المذكورة. يضاف لذلك كله الأثر السلبي لفقدان الحرية الفكرية في البيئة التعليمية، حيث يقتصر نقاش الأفكار والقضايا المختلفة على المدرس أو الدكتور، دون أن يسهم المتعلم بشيء من المناقشة. وتلقى المعلومات من وجهة نظر واحدة، تقوم على الانتقاء, والتبرير، والإلزام.
لذلك كله يكون نمط الشخصية التي تخرجها هـذه المؤسسات هـي " الشخصية المقبولة " إلا إذا تعرض لتأثيرات ثقافية أخرى خارج أطر البيئة المحلية.