الفصل الثالث أهمية إخراج الأمة المسلمة
الإطار العام الذي يحدد أهمية إخراج الأمة المسلمة ويحدد مكوناتها هـو قوله تعالى:
( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير *
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير *
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هـم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم *
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) [الأنفال:72-75].
هكذا يبدو واضحا من الآية الأولى (رقم 72) أن التربية الإسلامية لا تتوقف عند إعداد " الأفراد المؤمنين " ، وإنما تتخذ من هـذا الإعداد وسيلة لهدف آخر هـو إخراج " أمة المؤمنين " التي يتلاحم أفرادها عبر شبكة من الروابط الاجتماعية التي تندرج تحت أسماء: الهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة، والتي تكون محصلتها النهائية هـي: الولاية، أي: أن يتولى كل عضو رعاية شئون الأعضاء الآخرين. أما الأفراد المؤمنون الذين يبقون خارج (مهجر) الأمة المؤمنة، فهؤلاء لا فاعلية لإيمانهم، ولا روابط، ولا ولاية بينهم وبين " أمة المؤمنين " .
ومع أن الآيات المذكورة أعلاه تتضمن - كما قلنا - أهمية (إخراج الأمة المسلمة) ، وتتضمن المكونات الرئيسة لهذه الأمة، إلا أن الحديث في هـذا الفصل سوف يقتصر على أهمية (إخراج الأمة المسلمة) ، بينما يؤجل الحديث عن مكوناتها إلى الباب الذي يليه. أما مظاهر هـذه الأهمية فهي كما يلي:
الأهمية الأولى: هـي ما تنبه إليه الآية الثانية (آية 73 من السورة) حول الأضرار التي تنجم عن عدم (إخراج الأمة المسلمة) ، وتتمثل هـذه الأضرار في ضررين رئيسيين هـما:
[ ص: 29 ]
الضرر الأول: هـيمنة (قيم الكفر) في الأرض، وإخراج (أمة الكفر) ، حيث لا يقتصر الكافرون على ممارسة كفرهم كأفراد متناثرين، وإنما يتجمعون في أمة يوالي بعضها بعضا. فإذا لم تقم " أمة الإيمان " فسوف تتولى " أمة الكفر " القيادة في الأرض، وتهيمن على مقاليد التوجيه والتخطيط والتنفيذ في كل ما يتعلق بشئون السلم والحرب سواء.
والضرر الثاني: إن انتقال القيادة العالمية إلى " أمة الكافرين " سوف يؤدي إلى استغلال خزائن الله من المقدرات البشرية والمادية استغلالا سيئا ثم يكون من نتائج هـذا الاستغلال السيئ ملء الأرض بالفتن والفساد الكبير، فتن في ميادين السياسة، وفساد في ميادين الاجتماع، وتشيع الصراعات والحروب الداخلية أو الإقليمية أو العالمية، وينتشر الفساد الكبير، الذي يتمثل في الانهيارات الأخلاقية، وشيوع التحلل والفواحش، وانتشار الفلسفات والأفكار الهدامة، وغير ذلك.
والأهمية الثانية: لقيام " أمة المؤمنين " ، هـي ما توجه إليه الآية الثالثة (آية 74 من السورة) حول الفوائد والمنافع التي تترتب على إخراج " الأمة المسلمة " ، وهي ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: تجسيد الإيمان في " جنسية " مميزة و " هوية " خاصة، وفي حضارة إسلامية، لها ثقافاتها ونظمها الاجتماعية، وتطبيقاتها في ميادين السلوك والقيم، والعادات والتقاليد، الممتدة عبر الزمان والمكان. ولذلك وصفت الآية بأن أفراد " الأمة المسلمة " المجاهدين المتآوين المتناصرين في مهجر واحد (هم المؤمنون حقا) ؛ أما الأقليات الإسلامية المبعثرة هـنا وهناك فهذه لا تدخل في وصف " المؤمنون حقا " ؛ لأنها لا تتمكن من أن تعيش إيمانها في " جنسية متميزة " ، وتطبيقات اجتماعية لها ثقافتها ولغتها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولها قيمها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها. وبالتالي لا تفرز حضارة متميزة، تنحدر عبر التاريخ، وتشد إليها الرحال، ليتعلم الناس في مؤسساتها التربوية والإدارية كيفية الحفاظ على النوع البشري ورقيه. وإنما تذهب جهود هـذه الأقليات هـدرا في روافد " أمة غير مسلمة " ثم تذوب وتختفي بعد جيل أو جيلين. ولذلك لن يكون قبول حياة " الأقلية " إلا ضرورة مؤقتة، حتى ينجح العمل الإسلامي الصائب في إيجاد مهجر تقوم فيه " أمة المؤمنين " ، فإذا قامت صارت حياة الأقلية رضى بالاستضعاف في الأرض، وظلما للأنفس، ووضعها في بيئات مرهقة للإيمان، تهدد بذهابه والانتهاء بأصحابه إلى عقوبة الله.
ولذلك حدد القسم الثاني من الآية الأولى العلاقة بين " الأمة المسلمة " و " الأقليات المسلمة " المتناثرة خارج (دار الهجرة) بأن أفرغ هـذه العلاقة من (الولاء والولاية) أي: عدم
[ ص: 30 ] المسئولية عن الأقليات، إلا ما كان من نصرتها إذا تعرضت لاضطهاد ديني، من قبل أمم لا تربطها بالأمة المسلمة مواثيق ولا معاهدات. وإن الباحث ليلمح في هـذه العلاقة السلبية بين " الأمة المسلمة " و " الأقليات المسلمة " خلق نوع من الأوضاع القلقة غير المريحة التي تجبر الأقليات المذكورة على الهجرة إلى مهجر " أمة المؤمنين " .
والفائدة الثانية: هـي الاستقرار الاجتماعي والاستقرار السياسي المشار إليهما بـ (لهم مغفرة) . فالمغفرة تجنيب الأمة المسلمة عقوبات أخطاء الأمم. وعقوبات الأمم في القرآن الكريم متنوعة، منها ثوران الأحقاد الداخلية، أو إشاعة الفتن والحروب في الداخل، أو تسليط الغزاة من خارج:
( قل هـو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) [الأنعام:65]،
( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) [الإسراء:5]
والفائدة الثالثة: هـي الازدهار الاقتصادي المصحوب بالتماسك الاجتماعي، والعلاقات الكريمة بين طبقات الأمة وأفرادها، والمحافظة على كرامة الأمة وعلى قيمها وأخلاقها في الداخل، وسمعتها التاريخية في الخارج. فالأمة المؤمنة رزقها (رزق كريم) ، يحفظ كرامات الأفراد رجالا ونساء، فلا تضطرهم لقمة العيش إلى التفريط بكراماتهم وحرماتهم ولا إلى تجارة الفواحش والمنكر. وهو (رزق كريم) يحفظ كرامة الأمة التاريخية فلا يلطخ سمعتها، ويصمها بعار الغزو والاستعمار والتسلط والاحتلال، وهو يحفظ كرامتها الحضارية، فلا يضطرها إلى ممارسة الفضائح، ونقض المواثيق، والتآمر على الأصدقاء، وإيثار المنافع المادية على علاقات الرقى الحضاري. وهو (رزق كريم) يحفظ كرامة الأمة الاجتماعية، فلا تحتاج إلى تقدمة أعراضها ونسائها كراقصات ومغنيات وغوان في أماكن اللهو والفاحشة لتجلب السائحين وطالبي المتع المحرمة الضارة! وأخيرا هـو (رزق كريم) يحفظ للأمة المسلمة كرامتها عند الله، ويمنحها كرامة الدرجات العلى في الآخرة، سواء في المنزلة أو المأوى.
والأهمية الثالثة لقيام " أمة المؤمنين " : هـي ما توجه إليه الآية الرابعة (آية 75 من السورة) من خلال الإشارة إلى أن " الأمة المسلمة " هـي مجتمع مفتوح غير مغلق. فباب الهجرة إليه مفتوح، والانضمام إليه له شرط واحد فقط هـو: الإيمان، والمشاركة في حمل الرسالة، مع مراعاة روابط الأرحام بين المهاجرين في جميع الأزمان، حتى لا يؤدي اختلاط المهاجرين بدون ضوابط، إلى التفكيك الاجتماعي، فالله عليم بقوانين الاجتماع السليم
[ ص: 31 ]
وغير السليم، وبالنتائج الحسنة أو السيئة.
وبسبب هـذه الأهمية (لإخراج الأمة المسلمة) أدرك رجالات الأمة الإسلامية الأوائل أهمية إخراج " الأمة المسلمة " ومتطلبات العضوية فيها. من ذلك " ما قاله
عمر بن الخطاب حين قرأ قوله تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله فيها "
>[1] [ ص: 32 ]