المـقـدمـة
خلال عملي في التدريس، وإشرافي على بعض الرسائل العلمية، التي تبحث في قضايا اليهود والصهيونية، ومن خلال قراءتي التوراة، تكون لدى انطباع بأن في حياة اليهود - قديما وحديثا - ظواهر غريبة، حاولت جمعها ثم تفسيرها، وإقامة الدليل على صحة ما ذهبت إليه.
فاليهودي حيث حل يحن إلى فلسطين ، ويريد الهجرة إليها، بل يدعو غيره إلى ذلك، وقد يتبرع له ويعاونه، وفي بعض البلاد كروسيا ، صارت قضية الساعة، فما من مفاوضات على أمر، إلا وهجرة اليهود في مقدمتها، فساعة تقايض بالقمح، ومرة بالتكنولوجية، ومرة تحشر مع نزع السلاح، وما خفي أكبر وأكبر.
فإذا سمح الروس بهجرة بعض اليهود، ووصل عشاق فلسطين إلى أول محطة، هـناك تبخر (العشق) وتدير الأكثرية ظهرها إلى فلسطين، لتتوجه إلى أمريكا وأوروبا. فكيف نفسر هـذه الظاهرة؟؟. [ ص: 33 ]
اعتقاد اليهود بأن كافة الشعوب تختزن قدرا من اللاسامية، بحيث تضطهد اليهود أينما حلوا، كيف نفسر ذلك؟؟
عشق اليهود للقوة، وتطلعهم الدائم لمحالفة الأقوياء، كيف نفسره؟ لماذا يحالفون الإنكليز ثم يحاربونهم؟، يحالفون المسلمين ثم ينقلبون عليهم؟ يحالفون فرنسا ثم ما يلبثون قليلا حتى يتحولوا إلى إنكلترا ثم أمريكا؟.
الأحزاب والجماعات المعادية لليهود، وجد دوما بين أعضائها يهود، حتى الجماعات التي شاركت بالاعتداء على اليهود وجد بينها يهود، فما التفسير؟؟.
هذه القضايا وأمثالها كثيرة جدا، من بينها إسناد كل شر لليهود، فهم وراء إثارة الحروب، وهم دعاة الشيوعية، والثورة الفرنسية، وهم أرباب المال، وأصحاب البنوك، وأساطير الرأسمالية. لقد صار اليهود (سلة) فكل من يعجز عن تفسير واقعة يرميها في سلة اليهود.
ولو درسنا ما قاله بعض مؤرخينا عن ( عبد الله بن سبأ ) لأمكننا القول: بأن ما أسند إليه يحتاج إلى جيش كامل، وليس في قدرة فرد، مهما أوتي من قدرة وذكاء.
ولو درسنا ما يقوله اليهود عن أنفسهم، وما يتميزون به، وبالمثل ما تتميز به أرض فلسطين، لرأينا العجب العجاب، مما لا مثيل له في التاريخ.
والصهيونية ذلك الوليد الذي نشأ وترعرع في أوروبا، في القرن التاسع عشر، [ ص: 34 ] والتي شهدت هـيجان الاستعمار، وانتشاره بحيث شمل 85% من مساحة الأرض، والذي استخدم العلم، وأنشأ فلسفة لتبرير كل تصرف، ماذا استفاد منه هـذا (التلميذ النجيب) ؟ ماذا استعار من منطقه وماذا ترك؟ ماذا أعجبه في الأستاذ وما لم يعجبه؟
كل هـذا حاولت رصده، ثم حاولت تفسيره ثانيا، وبعد ذلك سقت الأدلة على ما اعتقدت أنه التفسير السليم. لم أنطلق من أن كل اليهود أشرار، بل حاولت تلمس الموضوعية جهد ما أستطيع، ولم استسغ التهم والمبالغات، التي تسند كل شر لليهود، كذلك لاحظت أن ثمة اعتقادات معينة، مع بعض الممارسات، جعلت اليهود يتعرضون للنقمة، ثم وجدت شعوبا أخرى في شرق أفريقيا وغربها تقع في نفس الحفرة فتنصب عليها عين النقمة، فخرجت باستنتاج، بأن بعض الأفعال والمعتقدات هـي سبب النقمة على اليهود، وليس ذلك مرتبط بالدين أو الجنس، وبإمكان اليهود تجنب ذلك إذا أرادوا، وأما الربط بين الدين والجنس، فلا صحة له. وقد وجدت (الصهاينة) قد استعاروا من الاستعمار الغربي منطقه، فراحوا يفلسفون حقوقا لهم، يرفضها المنطق والوجدان، كما وجدت اليهود يجرون على المشاريع الاستعمارية بعض التحوير، لتناسبهم بشكل أفضل.
وأخيرا لقد قام الصهاينة بهجمتهم علينا، وتحدونا في عقر دارنا، دون أن يصدر منا شيء يؤذيهم، فصاروا من أكبر التحديات التي نواجهها في حاضرنا، وربما في مستقبلنا، وقد فرضوا عدوانهم علينا فرضا، [ ص: 35 ] ومن منطلق القوي الذي يريد تحطيم إرادة خصمه، يحاولون بكل السبل تفريقنا، وزرع الشك بيننا، وإقناع حكامنا بأن الخطر على كراسيهم ليس من إسرائيل، ولكن من العناصر الإسلامية المتطرفة، ويبدو أن الكثير صدق هـذه المقولة، خصوصا وأنهم أجروا الكذبة على لسان صنيعتهم (هيغ) وزير خارجية أمريكا السابق والذي أثبت أنه أكثر صهيونية من زعماء الصهيونية.
فمن أجل فهم هـذا (المتحدي) فهما جيدا، بعيدا عن (التهويل أو التهوين) أقدم هـذا الكتاب.
لقد اتسمت علاقاتنا بالصهيونية حتى حرب 1967 بالتهوين الكامل، فهم شراذم، وعصابات، وشذاذ آفاق، وكلاب حراسة ... الخ.
وبعد هـزيمة 1967 تبدل العزف والآلات، فانتقلنا -دون مقدمات- من التهوين إلى التهويل، ومن يقرأ المقالات التي كتبها ( هـيكل ) يشعر بأنه من المستحيل إلحاق هـزيمة بالصهاينة وجيشهم، وهنا نتذكر جنرالا عسكريا متواضعا خجولا، لم يقف في حياته أمام عدسة تلفزيون، قد حارب اليابانيين فهزمهم، ثم حارب الفرنسيين فدحرهم، وجاء الأمريكان يجربون حظهم، فلطخ وجوههم بالطين، وأخرجهم مهزومين. لقد حارب بجيش أسلحته بدائية، وقد وصف ( موشى دايان ) في مذكراته ذلك الجيش من الحفاة، الذين كانوا يسيرون على أقدامهم ثلاثة أشهر، فيهزمون الجيش الأمريكي، بكل ما لديه من ترسانة سلاح، وتقدم علمي.
إن الجنرال (جياب) أثبت حقيقة حاول (هيكل) بكل قواه [ ص: 36 ] قتلها واغتيالها وهي: إن الحرب إرادة قبل أن تكون سلاحا وعتادا.
ويوم كنا أمة حرب، لا رجال انقلابات وتحالفات في الظلام، يوم ذاك جاء سعد بن أبي وقاص ، ومعه رجال الصحابة، وجلهم لم يكن رأى نهرا في حياته، ووقف الجيش الإسلامي على (دجلة) وكان فائضا، وقد سحب الفرس الجسر، فأمر (سعد) جيشه بدخول النهر والسباحة، للاصطدام بجيش الفرس على الطرف الآخر من النهر، وخرج الجيش من النهر، فلما رأى الفرس ذلك سقط في أيديهم، وانتهت المعركة قبل أن تبدأ.
انهزم الفرس وهم يصرخون (مجانين مجانين) .
وفي هـذا المد الروحي العظيم، تقدم ابن أم مكتوم الأعمى، يطلب أن يشارك في الحرب، على أن يكون حامل الراية.
فإذا كان هـذا (تطلع) الأعمى، فكيف كان غيره؟؟.
وعلى يد (أبطال الانقلابات) حاربنا ستة أيام، وقال أحدهم: انتظرناهم من الشرق فجاءونا من الغرب! إن معرفة (العدو) معرفة دقيقة، بعيدة عن كل تهوين أو تهويل، هـذه المعرفة ضرورية، من أجل التعامل معه على هـذى ونور.
قرأت في كتاب (الحرب من أجل السلام) لعيزرا وايزمن أنه حين كان وزيرا للدفاع، ظهرت بوادر في مصر تدل على رغبتها في السلام، فألف لجنة من استخبارات اليهود، واستخبارات بعض الدول، وفريق من المستشرقين، واستمرت الدراسة عاما كاملا، ثم جاء بعد ذلك القرار. وهكذا يكون العمل. [ ص: 37 ]
أنا أكتب - وهذا ما أحسنه - من أجل فهم أفضل لهذا العدو، الذي فرض علينا فرضا، والذي يسند ظهره إلى أكثر من جدار، والذي ما زال يلعب لعبة الشيطان، حين أراد أن يغني، فعز عليه ذلك، فقرر أن يدخل في رأس الحمار، ويحسن له الغناء.
إن الكثير من سوء العلاقات الناشئ بين حكامنا وشعوبهم، يعود لذلك (الهمس الخفي) الذي تمارسه (الحمير) بعد أن دخلها الشيطان الصهيوني، فجعلها تغني تارة، وتخترع معلومات تارة، تحذر من متطرفين لا وجود لهم، إلا لدى الشيطان وحميره. إن مشورة من رجل مثل (كيسنجر أو هـيغ) كافية لقيام حرب وذبح شعب، وإفساد علاقة بين حاكم وشعب، إلى ما لا نعلمه، مما ينبت في السر ويموت كذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي [ ص: 38 ]
التالي
السابق