تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء، بما يمتلك من القيم الضابطة، والمبادئ الأساسية لمسيرة الحياة، وبما شرع من السنن النفسية، والآفاقية التي تحكم الحياة والأحياء، وتؤصل لقوانين الاجتماع، والعمران.
وأورث الأمة المسلمة الكتاب، وجعلها أمة وسطا، وناط بها مسئولية الشهادة على الناس، والقيادة لهم، وتقويم سلوكهم بقيم الدين،
قال تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ، [البقرة: 143]،
ذلك أن الشهود الحضاري على الناس، وللناس، يعتبر من أخص خصائص الأمة المسلمة، صاحبة النبوية الخاتمة، الخالدة، والرسالة المعيار،
يقول تعالى:
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) [المائدة:48].
فجاء القرآن مصدقا للكتب السابقة في أصولها السماوية، ومعيارا مصوبا لما داخلها من التحريف، والتبديل، فكان الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، إيمانا بالنبوة كلها عبر تاريخ البشرية الطويل.
والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، الذي كانت الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالعالمين، وإنقاذ البشرية من شقوتها، وضلالها،
[ ص: 7 ] يقول تعالى:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [الأنبياء:107]،
والذي يقف بأمته المسلمة على قمة التجربة البشرية، والعبرة التاريخية للأنبياء مع أقوامهم، حيث جعل القصص القرآني، المختبر البشري التاريخي، لصدقية، ويقينية، واطراد القوانين، والسنن الاجتماعية، التي أكدها القرآن، وأوقف عليها الأمة الخاتمة، لتتبين قوانين السقوط والنهوض، وتأخذ العبر والعظة، وتحقق الوقاية الحضارية، مهتدية بقوله تعالى:
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين *
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) [آل عمران: 137-138]. وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثالث والثلاثون: " الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع " ، للأخ منصور زويد المطيري ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة
قطر ، مساهمة في إعادة تشكيل الشخصية المسلمة المعاصرة، وبناء الأمة المعيار، وتبصيرها بوظيفتها في تحقيق الشهود الحضاري، من موقع الوسطية والاعتدال، وفك قيود التحكم والارتهان الثقافي، والاستيلاب الحضاري، ومعالجة أسباب التقليد والتخاذل الفكري، وفتح مجالات الحوار والاجتهاد الفكري، في محاولة لاسترداد الإرادة، وامتلاك القدرة على السير في الأرض، والتوغل في التاريخ، واكتشاف السنن الفاعلة في الأنفس والآفاق، ومن ثم حسن قراءة الواقع البشري في ضوء قوانين الاجتماع والعمران، بأبجدية سليمة تمكن من إعادة البناء للحاضر، والاستشراف لصناعة المستقبل، وتحديد مواطن الخلل والإصابة التي تعيق النهوض.
ذلك أن السير في الأرض، والتوغل في تاريخ الاجتماع البشري، هـو الذي يحملنا إلى الاهتداء للسنن والقوانين الفاعلة، التي شرعها الله في
[ ص: 8 ] الأنفس والآفاق، ومحاولة تسخيرها، والاضطلاع بهذا الفرض الكفائي الغائب عن حياة المسلمين اليوم.
فالتاريخ هـو المختبر الحقيقي في إطار علوم الإنسان، وهو الأب الشرعي لكل العلوم الاجتماعية، التي لا بد من الإحاطة بها، والرسوخ فيها، ومعرفة قوانينها وسننها، التي تحدد المداخل الصحيحة للشهادة على الناس، وتقود إلى صناعة تاريخية مستقبلية علمية، بعيدة عن لتنبؤ، والظن، والتخرص.
والتاريخ، الذي هـو منجم العلوم الاجتماعية، ومختبرها، لا يأتي من فراغ، ولا ينشأ في فراغ، وليست حوادثه عبثا من العبث، وإنما هـو يمثل الاستجابة المجسدة، بشكل أو بآخر، لعقيدة الأمة وقيمها، ونظرتها للكون، والحياة، والإنسان.. لذلك يعتبر التاريخ أحد المداخل الرئيسة التي لا بد من استصحابها لإدراك حقائق الحاضر، وأبعاده العميقة، ومساراته الأساسية، بعيدا عن صورة الواقع وما يعتريه من الإيهام والزيف، خاصة عند من يمتلكون القدرة على التشكل والمخادعة.
كما لا بد من استصحاب التاريخ، ووضع الحاضر في موقعه الملائم من السيرورة التاريخية، لإدراكه، وتقدير ما سوف يصير إليه في ضوء المقدمات والعبر التي يوفرها التاريخ، ويؤكدها الحاضر.
لذلك نعتقد أننا حتى نتمكن من إدارك الأبعاد الحقيقية لحاضر أية أمة من الأمم، أو حضارة من الحضارات، لا بد لنا من دراسة عقيدتها، التي تشكل نظرتها للحياة، ومنظومتها الفكرية (عالم أفكارها ) ، ولا بد أيضا من دراسة تاريخها، ووضعه في سياقه الطبيعي، من خلال السنن التي تحكم المجتمعات البشرية.
إننا بهذا الفقه الاجتماعي أو العلم بالسنن والقوانين الإلهية، التي تحكم المسيرة البشرية (علم قوانين الاجتماع والعمران ) ، نكون قادرين
[ ص: 9 ] على التعامل الصحيح، وتحديد الأبعاد والمداخل الصحيحة لذلك التعامل، والمجالات المؤثرة في البناء والتغيير، والتجديد، والتحويل الثقافي، من خلال الاهتداء إلى السنن الإلهية التي تشكل أقدار السقوط والنهوض للأمم والحضارات.
وقد يكون من المفيد هـنا، أن نسارع إلى القول: إن فهم الواقع، والتعرف على آليات التحريك، والتغيير، والتجديد، مرهون إلى حد بعيد بالوقوف على اكتشاف السنن النفسية والآفاقية، التي يمكن أن نطلق عليها: " قوانين الاجتماع والعمران " ، والإحاطة بالشروط والعوامل الفكرية المؤثرة فيها.
إن فهم الواقع، والوقوف على سنن التغيير، والتجديد، والنهوض، والوقاية الحضارية بالنسبة لأمة الإجابة: " مجتمع المسلمين " ، كما أنه مطلوب أيضا لإيصال الرسالة الإسلامية لأمة الدعوة: " غير المسلمين " ؛ لأن ذلك يمكن من معرفة مداخل الشعوب، وخصائص وصفات خطابها، وعوامل استنفارها واستفزازها، أو استنقاعها الحضاري، على حد سواء.
صحيح أن الله سبحانه وتعالى ، الذي خلق الإنسان، هـو أعلم بكينونته، وحاجاته الأصلية، ومشكلاته التي سوف تعرض له، وأن الخطاب الإلهي للناس، يحمل كل المواصفات المطلوبة للاستجابة؛ لأنه خطاب الخالق المعصوم، لمن خلق، وبذلك يمكننا القول: إن بين خطاب الله الخالق، واستجابة المخلوق، تواعد والتقاء، وإن عدم الاستجابة تعني، إلى حد بعيد، وجود خلل في أدوات التوصيل، قال تعالى:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك:14] ... فالذي خلق الإنسان، أعلم بالقوانين التي تحقق له السعادة، وترفع عنه الشقوة المتأتية من تسلط الإنسان على الإنسان، باسم التشريع له، أو وضع المنظومات الفكرية والقوانين الاجتماعية للأمة.
[ ص: 10 ]
لذلك، كانت رسالة النبوة، متميزة، وكانت أكثر عمقا، وأبعد أثرا في التغيير والاستجابة، من الفلسفة القائمة على الاستقراء، والعلم البشري المحدود، من جانب، الخاضع للكثير من العوامل والمؤثرات من جانب آخر. ذلك أن الخطاب الديني " رسالة النبوة " ، معصوم بمواصفات الخالق، بينما يجري الخطأ والصواب والنسبية على الخطاب الإنساني في إدراك الحق من جانب، وفهم حال المخاطبين من جانب آخر.
إضافة إلى ذلك، فإن معارف الوحي، قدمت نماذج كثيرة من السنن والقوانين الاجتماعية، التي تمثل الأمور الرئيسة في مسيرة الحياة والاجتماع الإنساني، للاهتداء بها، ولتكون النافذة التي نطل منها على كثير من السنن الاجتماعية، المنوط اكتشافها وتسخيرها باجتهاد العقل.
إن نصوص الوحي المعصومة، تحدثت عن مجتمع الأنبياء، والعوامل النفسية والمادية المؤثرة فيه، على شكل معادلات اجتماعية، أشبه ما تكون بمعادلات العلوم المادية، بل لقد تجاوزت الحقائق اليقينية التي تترتب على المقدمات في العلوم المادية، إلى الكلام عن العواقب والمآلات التي سوف تنتهي إليها المجتمعات التي تتحكم فيها بعض العادات والممارسات، المفضية إلى الهلاك.
إن طلب السير في الأرض، والنظر في العواقب والمآلات، جعله النص الإلهي من الفروض الكفائية، التي تفضي إلى التبين، والتبصر، والاهتداء إلى السنن الاجتماعية في السقوط والنهوض، واختزال التاريخ الإنساني، وتحقيق الاعتبار، وإضافته إلى عمر الأمة المسلمة، وتجربتها، لتحقق بذلك الوقاية الحضارية، وتتعظ بأحوال السابقين.
ذلك أن سنن الله لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تحابي أحدا، وأن الذي يدركها، هـو القادر على التغيير، والتجديد، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وأن الذي لا يدركها يصبح مسخرا، بدل أن
[ ص: 11 ] يكون مسخرا لها، الأمر الذي يؤكد لنا أن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخها، وثقافتها، ومعادلاتها الاجتماعية، هـو الذي يوضح لنا كيفيات وآليات التعامل معها، ومواصفات خطابها، والفقه الذي يمكننا من التدرج في الأخذ بيدها إلى تقويم سلوكها بشرع الله.
إن ما ورد في القصص القرآني، يشكل مختبرات بشرية خالدة، مجردة عن حدود الزمان والمكان، من الناحية الاجتماعية، كما يشكل منجما لاغتراف الثقافة الاجتماعية، والعلم الاجتماعية، وتعدية الرؤية، وإعادة الصياغة، ودليلا إلى أن فهم الواقع أمر أساس، لا يقل عن فهم تعاليم النبوة؛ لأن فهم الواقع هـو الذي يمكن من حسن تنزيل تعاليم النبوة، والتعرف إلى وسائل إحداث التفاعل، وتحريك آليات التغيير الاجتماعي، وهذا لا يكون إلا بالفقه الاجتماعي، أي بالتحقق من القوانين التي تحكم الاجتماع والعمران.
وإن كنا نعتقد أن فقه التعاليم الإلهية، لا يتحقق بشكله المطلوب دون الفقه الاجتماعي، الذي يشكل محل هـذه التعاليم، وأن فقه الحكم الشرعي، وفقه الحال، أمران متلازمان، حيث لا اعتداد بالحكم من دون المحل، ولا قيمة للمحل بدون الحكم؛ لأن الأحكام بمقاصدها، وبمقدار ما تحقق من التغيير والاستجابة في المحل. لذلك نرى في كثير من الأحيان، ضرورة العدول عن الحكم إلى الترخص شرعا، عندما لا تتوفر الشروط المطلوبة في المحل. وكأن ظروف محل الحكم، هـي التي تحكم المدى المطلوب لمراحل التنزيل. لذلك نقول:
إن فقه التعاليم، من لوازم فهم الواقع.. وفهم الواقع، من لوازم فقه التعاليم..
حتى ليمكن اعتبار كل منهما مقدمة للآخر، ونتيجة له في وقت واحد، كما هـو الحال في التلازم بين السنن النفسية والسنن الآفاقية، في الرؤية القرآنية.
[ ص: 12 ]
إن معظم الخطاب في الكتاب والسنة، في بدء التنزيل، انصرف إلى تشكيل الإنسان والمجتمع (محل الحكم ) ، وفق منهج معين، ومن ثم جاءت مرحلة تشريع الأحكام لهذا المجتمع، إذ لا فائدة من الحكم، حفظا، وفقها، إذا افتقدنا المحل، الذي هـو الإنسان، أو المجتمع الإنساني.
إن امتلاك القدرة على دراسة هـذا الإنسان، المخلوق الاجتماعي، والتحقق من القوانين التي تمكنا من التغيير الاجتماعي، وفقه تنزيل الحكم على محله، هـو الأمر الغائب.. ولعل مشكلة المسلمين اليوم، وإلى عقود تاريخية ماضية، ترجع في الغالب إلى قصر الاهتمام على فقه الأحكام، دون إعطاء القدر اللازم للاهتمام بمحل الحكم، الذي هـو الواقع الاجتماعي.. ولا ندري، كيف يتحصل فقه للنص دون فهم للواقع؟.
ولا بد من الاعتراف أن كثيرا من شعب المعرفة قد توقفت في حيات المسلمين منذ زمن بعيد، ونخص بالذكر هـنا شعب المعرفة في العلوم الاجتماعية، والإنسانية، الأمر الذي لم نلق له بالا بعد، ونظن أن التخلف والتوقف منحصر في العلوم التجريبية المادية، فقط، مع أن أمر التوقف في العلوم الاجتماعية والإنسانية، هـو الأخطر. ذلك أن التخلف في تلك العلوم هـو سبب التخلف في العلوم المادية؛ ولأن التخلف في العلوم الإنسانية عصي عن الإدراك، إذا ما قورن بالعلوم والمخترعات المادية، في الوقت الذي بلغت فيه عند غيرنا من الأمم الناهضة شأوا بعيدا.. وفي اعتقادي أن الذي لا يزال يمنحنا الإمكان الحضاري، والقدرة على إحداث النقلة النوعية، هـو امتلاكنا التعاليم الإلهية السليمة، التي تشكل خميرة هـذه العلوم الإنسانية، وأدواتها، والكثير من وسائلها، وتبصر بوظائفها.
[ ص: 13 ]
لذلك نرى أنه لا بد من التوجه صوب هـذه الدراسات التي توقفت في حياة المسلمين، حيث اقتصر الفقه في الدين على فقه الحكم دون فقه المحل، الذي لا يتأتى فقهه إلا بفقه المجتمعات، والسنن الاجتماعية التي تحكم مسيرتها، في الوقت الذي تطورت عند الآخرين، وأدركوا أهميتها وخطورتها للتعرف على الواقع البشري، الأمر الذي كان لا بد منه لتسهيل عمليات الاستعمار والتنصير.
لذلك يمكن القول: بأن معظم هـذه العلوم الإنسانية، إنما نشأت في مناخ التبشير والاستعمار، وجاءت استجابة لحاجات مؤسسات التنصير، ومراكز صنع القرار، وأن تطورها فيما بعد، إضافة إلى ذلك، كان لحاجات التجارة والتسويق، والتحكم الثقافي.
ولا بد أن نشير إلى أن السلف الصالح، ومن خلال نضح الكتاب والسنة، انشغلوا بوظيفة تلك العلوم الاجتماعية، وأدركوا أهميتها من خلال تعاليم النبوة، عن الاشتغال بتحرير مصطلحاتها، وحدودها العلمية. ولكن المشكلة في : توقف فقه النبوة في عصور الركود والتخلف، الذي أدى إلى توقف هـذه العلوم، وإدراك أهمية وظائفها على حد سواء.
وكأن الأمر المطروح اليوم: كيف يمكن للمسلمين استئناف دورهم، وذلك بإدراك أهمية هـذه المعارف، والانطلاق صوب المستقبل لبناء علوم اجتماعية إسلامية، متميزة بنسقها، ومنطلقها، وهدفها؟ وهل الآليات العلمية والمنهجية، التي بلورتها تلك العلوم عند الآخرين، يمكن أن تكون أدوات سليمة، ومحايدة لعلوم اجتماعية إسلامية، أم أنها جاءت ثمرة للرؤى، والمنطلقات الأخرى، ولعمر حضاري وثقافي معين؟ وإلى أي مدى يمكن للمسلمين في مواقعهم الحالية المتخلفة، التعامل مع هـذه الأدوات، دون الاخلال بالمنطلقات الإسلامية؟ وهل المسلمون اليوم، في المستوى الذي يمتلكون فيه معايير وشروط التعامل،
[ ص: 14 ] أم أنهم في منخفض حضاري، تصب عليهم الثقافات، والمذاهب، والمناهج، دون القدرة على التعامل معها كما هـو حال الأواني المستطرقة في تلقي السوائل؟
وبالإمكان القول: إن تعاليم النبوة في المسألة الاجتماعية، تشكل بالنسبة للمسلم، إن هـو فقهها تماما، مركز الرؤية، وتبصر بالسنن الاجتماعية الأساسية التي تحكم مسيرة الحياة، والاجتماع البشري، والتي تشكل له عواصم من الزلل، كما أنها تمكن في الوقت نفسه من الإفادة من الوسائل التي حاولت مناهج البحث الغربي تجريدها في أدوات تسهم في تقليل الخطأ في النتائج، كالتأكيد على استخدام الملاحظة، والإحصاء، والاستبيان، واختيار العينات، والمقابلة، والمعايشة، والمقارنة، والمطابقة. وهذه كلها أدوات تستعين بها العلوم الاجتماعية اليوم، ويمكن أن تستعين بها العلوم الاجتماعية الإسلامية، وتصوب، وتحسن توظيف نتائجها بما تمتلك من الضوابط المنهجية في الوحي المعصوم، والسنن الاجتماعية التي شرعها الكتاب، وبينتها السنة.
ونستطيع أن نقول: إن علم الاجتماع وغيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، التي تأصلت وتبلورت وامتدت على يد الآخرين بعد توقف العقل المسلم، إنما صبت في العالم الإسلامي من الخارج، وهي وليدة حضارة وثقافة لها وتاريخها، وفلسفتها، وخصائصها، وعمرها الفكري، ووليدة لمجتمعات لها أزماتها، ومشكلاتها، وتحولاتها الاجتماعية، ونسقها المعرفي، والسؤال المطروح: هـل تعتبر المعايير والمفاهيم التي طرحتها الحضارة الغربية، ولا سيما في علم الاجتماع، مفاهيم علمية حقا؟ ذلك أن وصف العلمية يفترض أن تكون هـذه المفاهيم والمعايير عامة وعالمية، كما هـو الحال في ميدان العلوم الطبيعية، ومن ثم يكون بالإمكان تطبيقها على كل المجتمعات؟
[ ص: 15 ] وهل يمكن الادعاء بأن المناهج والتقنيات المختلفة، وأدوات التحليل التي جاءت ثمرة لعلم الاجتماع الغربي، هـي فعلا أدوات موضوعية ودقيقة، تساعد على دراسة الظواهر الاجتماعية؟
وتبقى القضية الأساسية المطلوبة بالنسبة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، أن يقتحم الباحثون في علم الاجتماع وغيره الساحة، ويبدءون طرح بعض التساؤلات، والقيام ببعض الدراسات حول تلك المفاهيم، والمناهج المتبعة، والتقنيات المستخدمة، وحول مشروعية تطبيقها في دراسة مجتمعات تختلف جذريا في عقائدها، وأفكارها، وتحولاتها الاجتماعية، عن المجتمع الذي نشأ فيه علم الاجتماع.
وقد تكون المشكلة الأساسية، أيضا عند بعض علماء الاجتماع العرب، فمعايرة واقع حضاري أو اجتماعي، بأصول حضارية وقوانين اجتماعية غريبة عن أصوله ونسقه المعرفي.. أو بمعنى آخر، معايرة واقع حضارة، بأصول ومنطلقات حضارة أخرى.
وهنا يكون من المفيد أن نشير إلى أن الحصيلة الإسلامية المعاصرة في إطار علم الاجتماع، ما تزال في طور الأفكار، والملحوظات، بحيث لم ترق بعد إلى بلورة النسق المعرفي الإسلامي في هـذا الموضوع، وتأسيس علم الاجتماع الإسلامي بعد أن توقفت تلك الشعب المعرفية في تاريخنا الثقافي، إلا من بعض النظرات والبوارق التي لم تستطع تأصيل الموضوع والامتداد به من بعد ابن خلدون -رحمه الله - سواء في ذلك أصحاب المقاربات الفكرية، الذين حاولوا محاكاة الطروحات الغربية، واستعمال أدواتها، وتطبيقها على المجتمع الإسلامي، أم أصحاب المقارنات، الذين حاولوا بيان بعض الفوارق، التي تتميز بها السنن الاجتماعية والنفسية في الرؤية القرآنية، عنها في مذاهب علم الاجتماع الغربي، سواء في المنطلقات أو في التطبيقات، وتفسير لظواهر
[ ص: 16 ] وتفسير الظواهر والتحولات الاجتماعية، وسنن التغيير، لكن دون القدرة على تأسيس النظرة الإسلامية، وتقديم الدراسات الرائدة.
ونستطيع القول: بأن المتحصل في ذلك إلى الآن، هـو رد فعل، وفكر دفاعي، أو ثقافة دفاعية، لحماية الذات غالبا، دون القدرة على الامتداد، وإيجاد البديل.. وقد تكون المشكلة أن كثيرا ممن اهتموا بهذا اللون من الدراسات، والذي جاء اهتمامهم ثمرة للاستفزاز والتحدي الثقافي، لم يتوفروا على هـذه الدراسات، ويتخصصوا فيها، لذلك جاء عطاؤهم عبارة عن نقرات، ونظرات، والتماعات، مبعثرة هـنا وهناك، يمكن أن تشكل المرحلة التمهيدية، أو بناء الهاجس الثقافي حول التقصير في مثل هـذا الميدان، وتقود فيما بعد إلى التأسيس والتأصيل.
لقد سارع العلماء والباحثون في العالم ا لإسلامي - كلون من رد الفعل - إلى إنشاء كليات للعلوم الإنسانية، ومراكز للبحوث المختلفة، لكن جاءت هـذه المؤسسات رهينة للمرجع، والكتاب، والمدرس، والمنهج، وأدوات التحليل، واستخدام المفاهيم النظرية والتقنيات الغربية، لفهم واقعنا المعاصر، دون التنبه إلى الفوارق الجذرية بين المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الصناعية الغربية، الأمر الذي أدى إلى سوء الفهم لمشكلات وظواهر مجمعاتنا الإسلامية من جانب، وتطبيق مناهج بعيدة عن معادلتها النفسية والاجتماعية في بلورة أنماط اجتماعية عاجزة عن الانطلاق من الماضي، واستصحاب السنن الاجتماعية في القرآن والسنة في التواصل مع الحاضر.
ودون الدخول في استقصاء الأسباب، لعلنا نقول: إن الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي انتهت إليه المجتمعات الغربية، مكن الباحثين والعلماء من التوفر على أبحاثهم، بعيدا عن معادلة الجوع،
[ ص: 17 ] والخوف، التي نهبت الإنسان في العالم الإسلامي، ولا تزال. كما أن تلك المجتمعات أتيحت لها أقدار من الحرية أمكن معها استقرار الظواهر الاجتماعية على الشكل الصحيح، بعيدا عن النفاق والتشكل الاجتماعي المغشوش، الأمر الذي يسر دراستها، والوصول إلى القوانين الاجتماعية التي تحكم سيرورتها.
وعلى الرغم من أن وعي المسلمين بأهمية العلوم والمعارف الاجتماعية المتنوعة، الذي جاء متأخرا نسبيان بسبب المواجهة المفروضة على العالم الإسلامي، حيث بدأت المحاولات سواء على مستوى إنشاء المؤسسات، أو الهموم والاجتهادات الفردية، لإقامة علوم اجتماعية ذات مرجعية إسلامية، تعيد النظر في أهداف ومنطلقات تلك العلوم، وتحاول الإفادة من آلياتها في ضوء رؤية ذات دراية بالعصر، وفقه بالنصوص المعصومة في الكتاب والسنة، فإن البشائر مطمئنة وذلك بالاهتداء إلى الإمكان الذي يمنحه الوحي، الذي يقف على قمة التجربة للأنبياء مع أقوامهم، ويوقف المسلمين على سنن السقوط والنهوض، ويجعلهم قادرين على هـضم التراث العالمي في مجال الدراسات الإنسانية، والتجاوز به إلى تحقيق المقاصد، والحكم، والوظائف التي يفتقدها الغربي، الذي أوجد العلم، وأضاع الحكمة، وأبدع الوسيلة،وافتقد الغاية.
إن رصيد المسلمين من القيم والتجارب في إطار العلوم الإنسانية، يجعلهم مؤهلين لتشكيل ريادة حقيقية في هـذا المجال، تخلص هـذه العلوم من الخلل، وتحرر أهدافها من الرغبة من الهيمنة والتحكم، وتوجهها لتحقق الغاية من الخلق، وتلحق الرحمة بالعالمين.
لذلك نرى أنه لا مندوحة لنا من الانطلاق من أهدافنا، ومفاهيمنا الأساسية، واستخدام تجربتنا، وتراثنا العلمي، والتوجه إلى إعادة
[ ص: 18 ] تشكيل مركز الرؤية، واستصحاب السنن الاجتماعية والنفسية، التي اختبرتها رحلة النبوة، ومجتمع النبوة، وتخلينا عن هـاجس المقاربة، والمقارنة، الذي لا يورث إلا ردود أفعال غالبا، لإنتاج علوم اجتماعية متلائمة مع نسقنا المعرفي. لكن هـذا لا يتحقق ما لم يتوفر المناخ الملائم لإنتاجنا المعرفي.
ولعل مما يبشر بالخير، توجه الكثير من الباحثين والدارسين إلى هـذا اللون من الدراسات، واختيار موضوعاتها، لتكون مجالا للدراسات الجامعية، والرسائل الأكاديمية، في الماجستير والدكتوراه ، إضافة إلى فسح المجالات في بعض الجامعات الإسلامية إلى مقررات في العلوم الاجتماعية، وفي مقدمتها علم الاجتماع الإسلامي، علاوة على ما تتضمنه مناهج مادة الثقافة الإسلامية، التي تدرس في الجامعات كمتطلب جامعي، من جوانب دراسية في المجال الاجتماعي والإنساني، وقيام مؤسسات وجمعيات وجماعات علمية، مثل جمعية علماء الاجتماع المسلمين، وغيرها.
وبعد:
فإن من الجدير بالذكر، توجه السلسلة صوب رسائل الدراسات العليا، التي تخضع للشروط الأكاديمية في البحث، واختيار بعض الموضوعات التي تصب في اهتماماتها، وتسهم في تحقيق أهدافها، ولا تبتعد بها عن خطاب المثقف المسلم بشكل عام، إضافة إلى الشعور بأهمية تشجيع بعض الباحثين والدارسين، على الإنتاج المعرفي المطلوب للمسلم المعاصر، وربط الدراسات الأكاديمية بالحياة الثقافية.
ولعل هـذا الكتاب، يعتبر باكورة هـذا التوجه....
وتأتي أهميته - وهو في أصله رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير -
[ ص: 19 ] في أنه محاولة جادة ومنهجية، في إطار التأصيل الإسلامي لصياغة هـذه العلوم، والتأسيس لمنطلقاتها، واعتماد معرفة الوحي لإعادة تشكيل مركز الرؤية، الأمر الذي لا بد منه لتحديد توجهاتها، وتحديد أهدافها، وضبط مناهجها، وتزكية وظائفها.. وإذا كان إعادة تشكيل الشخصية المسلمة، القادرة على الإنتاج المعرفي، من المنظور الإسلامي، لتستأنف دورها في الشهادة على الناس، والريادة لهم إلى الخير والرحمة، من الأهداف الرئيسة لكتاب الأمة، فإن ما نقدمه في هـذا الكتاب، يعتبر خطوة نوعية متقدمة في هـذا المجال، خاصة وأنه يفتح ملف المسألة الاجتماعية، التي هـي جزء من علوم الإنسان، الذي هـو المحور الرئيس الذي تدور عليه معرفة الوحي.
والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القصد، والصواب في السعي، إنه نعم المولى.
[ ص: 20 ]