علاقة علم الاجتماع بالوضعية واللادينية
لقد تركت التطورات الفكرية والفلسفية في المجتمع الغربي نقاشا حادا بين المفكرين والمصلحين حول طبيعة النظام الذي يجب أن يسود، وانقسم الناس تبعا لذلك إلى فريقين: فريق يطالب بالتغييرات الجذرية، التي تقضي على القديم، وفريق يطالب بالحفاظ على القديم وعدم الإضرار به
>[1] .
[ ص: 73 ]
وعلى هـذا فقد كان النظام الأمثل، مسرحا لعراك فكري بين أنصار فلسفة التنوير، وبين الرومانسية المحافظة، وبمعنى آخر كان العراك قائما بين دعاة التقدم، وبين دعاة النظام، " فدعاة النظام يذهبون إلى أن المشكلة ترجع إلى تحطيم النظام القديم، بينما يذهب دعاة التقدم، وهم الثوريون، إلى أن الأزمة ناتجة عن أن النظام القديم، لم يحطم تحطيما كاملا "
>[2] .
وفي هـذه الأجواء ظهرت الفلسفة الوضعية، مرتدية ثوب العلم وحده، وكما يقول " جولدتر " : ظهر جيل جديد لم يناصر الأيديولوجية الثورية، ولكنه لم يناهضها، وتأثر هـذا الجيل بتطور العلم السريع. وقد اتصف هـذا الجيل بصفتين: القدرة على الانفصال عن الأطر الفكرية السائدة من ناحية، والاستعداد للتأثر بنسق فكري جديد من ناحية أخرى.
لقد أحس هـذا الجيل بالحاجة إلى أيديولوجية تضفي على العلم صورة رومانسية، وتتفق في نفس الوقت مع النظرة العلمية الجديدة. فكانت الفلسفة الوضعية هـي ما قدمه ذلك الجيل. وقد ظهر من خلالها علم الاجتماع وهو الذي تقبلها ونشرها
>[3] وانطلاقا من هـذه الفلسفة، صاغ "
كونت " مصطلح " علم الاجتماع " وأدرجه ضمن تصنيفه للعلوم، الذي يبتدأ بالرياضيات، وينتهي بعلم الاجتماع، الذي أضفى عليه أهمية فائقة، فقد كتب يقول: " لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أو كيميائية، وفيزياء نباتية وفيزياء حيوانية. وما زلنا بحاجة إلى نوع آخر وأخير من
[ ص: 74 ] الفيزياء وهي الفيزياء الاجتماعية، حتى يكتمل نسقنا المعروف عن الطبيعة، وأعني بالفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا لدراسته، باعتبار هـذه الظواهر من نفس روح الظواهر الفلكية، والطبيعية، والكيميائية، والفسيولوجية، من حيث كونها موضوعا للقوانين الطبيعية الثابتة "
>[4] لقد آمنت الوضعية بمنهاج العلم التجريبي، ورفضت أي قضية لا تثبت بهذا المنهج، وذلك محاولة منها لغرس العقلية التي لا تفكر إلا باصطلاحات علمية، وترفض قضايا الدين التقليدي، والغيبيات بكل بساطة على أساس أنها غير علمية.
ومن ناحية أخرى، فقد أثرت الوضعية على الاتجاهات النظرية التي سادت فيما بعد، فعلم الاجتماع الذي دعا إليه كونت، هـو الذي أصبح علم الاجتماع السائد في الجامعات في أوروبا الغربية، والذي وصل إلى قمة تطوره التنظيمي في
الولايات المتحدة الأمريكية .
وقد كان الاتجاه البنائي الوظيفي هـو الوليد الأكبر للوضعية. فهو لا يعدو أن يكون صياغات جديدة لأفكار ومسلمات تنتمي إلى المؤسسين لعلم الاجتماع الوضعيين العضويين. لذلك فهو يعتمد على فكرة النسق العضوي، التي اعتمدت عليها النظريات العضوية.
ومع أن من أهم مظاهر علم الاجتماع الحديث تعدد الاتجاهات النظرية، إلا أنها تتغذى على المذاهب الفلسفية، التي من أهمها الوضعية والتطورية، وكذلك البرجماتية.
وقد اختلطت الوضعية والتطورية في دراسات علماء الاجتماع التي تتبع
[ ص: 75 ] مسيرة الإنسان الفكرية والاجتماعية، حيث ساروا على خطى " كونت " الذي أعلن أن هـدف علم الاجتماع عنده هـو : " اكتشاف سلسلة التحولات الثابتة المتتابعة للعنصر الإنساني، الذي بدأ من مستوى لا يرقى عن مجتمعات القردة العليا، وتحول تدريجيا إلى حيث يجد الأوروبيون المتحضرون أنفسهم اليوم "
>[5] .
وكما يتضح من هـذه العبارة، فإن علم الاجتماع يضع المجتمع الغربي في القمة، ويسعى جاهدا إلى أن تحذو المجتمعات الأخرى حذوه. وهذا بالفعل ما أكدته النظريات والقوانين، التي توصل إليها علماء الاجتماع " قديمهم وحديثهم " ، حيث ركزت على مسيرة الإنسانية، خلال عمرها المديد، مؤكدين سيرها نحو الأحسن الذي يتمثل في حياة الإنسان الأوربي المعاصر.
وقد كان لفكرة التطور، التي انتشرت في
أوروبا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، إضافة إلى فلسفة التاريخ، والإيمان المتزايد بقيمة العلم ومنهجه، الأثر الكبير في أن يتتبع علماء الاجتماع مسيرة الحياة الاجتماعية والفكرية، ويقدموها في شكل نظريات وقوانين.. من هـذا القبيل، دراسة كونت الشهيرة عن قانون التقدم البشري، والذي عرف بقانون الحالات الثلاث.
لقد صرح "
كونت " بأن الدين قد استنفد موضوعه، ولم يعد هـناك ما يبرر وجوده، وقد أفسح المجال الآن للعلم الوضعي الذي حل محله، بل إنه رأى أن سبب الفوضى وعدم النظام يعودان بدرجة كبيرة إلى أن الفكر الديني والميتافيزيقي، لا يزالان يعيشان جنبا إلى جنب مع الفكر الوضعي، في حين أنه من المفروض أن يفسحا المجال له.
[ ص: 76 ]
ويلاحظ على هـذه النظرية ما يلي:
1- الإيمان بفكرة التطور الخطي حيث يحل الجديد محل القديم.
2- اعتبار الدين مرحلة أولى، يناسب العقلية البدائية، ولا يصلح للعقلية المعاصرة.
3- تعميم هـذه النظرية وجعلها قانونا عاما، مع أنها تاريخ مشوه لمسيرة الإنسان الغربي الفكرية. فالمرحلة اللاهوتية تخص المسيحية الكاثوليكية، والمرحلة الميتافيزيقية تنطبق على فلسفة التنوير، والمرحلة الوضعية هـي المرحلة الصناعية الحديثة.
ومن النظريات الحديثة التي سارت على خطى نظرية "
كونت " ، ما قدمه "
سوركين " على أنه نظرية التواتر المتحول، والتي عرضها في مؤلفه الشهير " الديناميات الاجتماعية والثقافية " ، حيث رأى أن كل مجتمع من المجتمعات البشرية، يمر بثلاث مراحل، يحكم كل منها نسق معين من الثقافة، ولكل ثقافة عدة مراحل يمر المجتمع بكل منها في خط مستقيم، ثم يتحول إلى الثقافة التي تليها، وهكذا حتى ينتهي من مراحل الثقافة الثلاث، وحينئذ يتحول المجتمع إلى الثقافة الأولى، وهكذا تدون الدورة.
وبغض النظر عن صدق أو عدم صدق هـذه المراحل، فإن الملاحظ في هـذه النظريات هـو النظرة العدائية للدين، حيث تربطه دائما بالمجتمعات المتخلفة، كما أن كل مجتمع متقدم، يكون قد تخلص من الدين وثقافته وروابطه.
ويؤكد هـذا أيضا تالكوت بارسونز في نظريته التطورية، التي حاول خلالها أن يوسع نطاقها، بحيث تشمل التاريخ الإنساني بأكمله. وقد حدد ثلاثة مستويات تطورية تتيح كل منها وجود مجتمعات متنوعة ومختلفة:
[ ص: 77 ]
المرحلة الأولى: وهي " البداية " ، وتنقسم إلى مرحلتين فرعيتين.
فيتميز المجتمع البدائي أولا، بأن الدين وروابط القرابة يلعبان فيه دورا بالغ الأهمية. وثانيا يشير النموذج المتقدم من هـذه المرحلة، إلى المجتمعات التي تشهد نسقا للتدرج الاجتماعي، وتنظيما سياسيا، يقوم على وجود حدود إقليمية آمنة مستقرة نسبيا.
المرحلة الثانية: وهي " الوسيطة " ، وتضم أيضا نمطين فرعيين من المجتمعات:
(أ) المجتمعات القديمة التي تتميز بوجود " تعليم حرفي " ، أي تعليم محدود وخاضع لتنظيم وسيطرة الجماعات الدينية في المجتمع.
(ب) النموذج المتقدم من المجتمعات القديمة، كمجتمع
الصين والهند والإمبراطورية الرومانية، والدولة الإسلامية، حيث ينتشر ما سمي بالدين التاريخي.
المرحلة الثالثة والخيرة: " المتقدمة " ، وتشير إلى المجتمعات الصناعية الحديثة
>[6] .
وتلعب التطورات الحاسمة التي تطرأ على عناصر النسق القيمي، دورا بارزا في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة.
إن هـذه النظريات وغيرها من النظريات التي يعج بها علم الاجتماع، تهدف إلى إقامة فكرة التطور المطلق، وإنكار فطرة الدين والأسرة والزواج
>[7] . وفي هـذا نفي لقداسة الدين والأخلاق والأسرة، والتشكيك في قيمها،
[ ص: 78 ] كما أنها تحمل دعوة لتحطيم الدين باعتباره عاتقا عن التطور، ومرحلة مضت وانقضت من تاريخ البشرية.
وهي تحمل من ناحية أخرى، إلغاء مفهوم الإسلام القائم على إطار من الثوابت، في داخله حركة وتغيير.
والحق أن علماء الاجتماع يظهرون عداء للدين وأحكامه، الأمر الذي يظهر جليا في نظرياتهم وأحكامهم. حيث اعتبروا أنفسهم ممثلين للعلم الذي يعتبر مضادا للدين. وقد كانت المشكلة التي عالجها رواد علم الاجتماع واعتبرها جوهرية، كما قرر ذلك "
ريموند أرون " ، هـي التناقض بين الاعتقاد الديني وبين العلم. "
فدوركايم " مثلا علماني، باعتباره أستاذا للفلسفة، وقد وجد أن الدين التقليدي، لم يعد قادرا على مواجهة ما أطلق عليه الروح العلمية، كما أن أزمة المجتمع الحديث، هـي في أنه لم يستطيع أن يستبدل الأخلاقيات التقليدية القائمة على الدين، بأخلاقيات قائمة على العلم، وكان يرى أن علم الاجتماع يستطيع أن يعاون في إقامة هـذه الأخلاقيات
>[8] .
و "
باريتو " الإيطالي، كان مصرا طوال حياته على أنه عالم فقط، ولذلك اعتبر القضايا العلمية، هـي ما يمكن التوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي فقط. وأما غيرها من القضايا، وخاصة الأخلاقية،
[ ص: 79 ] والميتافيزيقية، والدينية، فليس لها أي قيمة علمية، ومع أنه يؤمن بتأثير الدين في تصرفات الناس، إلا إنه يقول: " المرء لا يستطيع أن يفسر عن طريق المنهج المنطقي التجريبي الوضع القائم للنظام الاجتماعي، دون أن يدمر أساسه.
فالمجتمع يقوم عن طريق المشاعر، التي لا حقيقة فيها، إلا أنها ذات تأثير عظيم. إن عالم الاجتماع إذا كشف للناس ما يجري خلف أنظارهم، فإنه بذلك يخاطر بتدمير أوهام، لا يمكن الاستغناء عنها " . فهو يعتبر الدين أوهاما لا يمكن الاستغناء عنها
>[9] .
وهذا "
ماكس فيبر " الألماني ينظر إلى التنظيم البيروقراطي والعقلاني على أنه قدر المجتمعات الحديثة. وكان يرى التناقض قائما بين مجتمع يقوم على العقلانية، وبين الحاجة إلى الإيمان. وقد رأى أن الطبيعة كما يفسرها العلم وكما تعالجها التكنولوجيا، ليس فيها متسع لسحر الدين، وأساطيره القديمة. إن الإيمان يجب أن ينسحب ليعيش في عزلة مع الضمير.
ولقد رأى أن أهم ميزة للحضارة الغربية، هـي غياب العقلية الغيبية القديمة، وسيادة الروح العقلية الرشيدة، لجميع جوانب الثقافة الغربية
>[10] .
وهذا "
ليفي بريل "
>[11] الفرنسي يسير على خطى الوضعية، فيرفض القول بمعيارية الأخلاق؛ لأنه رأى أن العلم لا يكون إلا وصفا للأحداث الخلقية دون أن يتجاوز الوصف إلى تصوير ما ينبغي أن يكون.
[ ص: 80 ] وقد أنكر عمومية المثل العليا، مستندا إلى أن التجربة تشهد بأنها تختلف باختلاف الشعوب وعصورها. وزاد على ذلك حين رأى أن الأخلاق التقليدية تقوم على مصادرتين هـما:
1- أن الطبيعة الإنسانية واحدة في كل زمان ومكان، ومن هـنا أمكن وضع مبادئ عامة للسلوك الإنساني، في حين أن التجربة تشهد بأن طبائع الناس تختلف باختلاف زمانهم ومكانهم.
2- القول بالفطرة المطلقة، في حين أنه يرى أن الضمير وليد التجربة من ناحية، ونسبي متغير من ناحية أخرى.
ولذلك فقد رأى أن الظواهر الخلقية يجب أن تدرس دراسة موضوعية مستخدمة المنهج التجريبي، الذي تعالج به الظواهر الطبيعية المادية، وذلك لمعرفة قوانين الحقائق الاجتماعية، للسيطرة عليها ما أمكن ذلك
>[12] . وهذا الرأي الذي يعتنقه "
بريل " هـو نفس الرأي الذي اعتنقه من قبله "
دوركايم " ، حيث حاول إقامة علم للأخلاق على أساس وضعي، فقد نظر إليها نظرة نفعية، وتصورها روابط تشيع التماسك في المجتمع وفي ذلك يقول: " لقد استقر عزمنا على أن تكون التربية الخلقية التي نلقنها لأبنائنا في المدارس، ذات صيغة دنيوية محضة. ونعني بذلك التربية التي لا تستند إلى المبادئ التي تقوم عليها الديانات المنزلة، وإنما ترتكز فقط على أفكار ومبادئ يبررها العقل وحده، أي أنها في كلمة واحدة: تربية عقلية خالصة "
>[13] .
[ ص: 81 ]
كل ما سبق ذكره يصب في قالب واحد يسمى: " العلمانية " ، فقد تغلغلت العلمانية في علم الاجتماع عن طريق منهجه، وتكوين رواده الغربيين العقدي. يقول المستشرق "
أربري " عن العلمانية : " إن المادية العلمية والإنسانية، والمذهب الطبيعي، والموضوعية، كلها أشكال للادينية، واللادينية صفة مميزة
لأوروبا وأمريكا " . وفي المعجم الدولي الثالث الجديد، مادة " Secularism " :
" هي نظام اجتماعي في الأخلاق، مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة، والتضامن الاجتماعي، دون النظر إلى الدين "
>[14] .
والعلمانية تعني صراحة، كلفظ في اللغات الأوروبية: " اللادينية " أو " الدنيوية " ، وهي تعني ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد
>[15] لقد درس علماء الاجتماع الدين على أنه واحد من النظم الاجتماعية الكثيرة الموجودة في المجتمع، مهمته توفير الوحدة الجماعية، كما يقول "
دوركايم " ، وهذه نظرة تتفق مع الفلسفة الرأسمالية الحديثة، بمعنى أن الدين والدولة شيئان منفصلان تربطهما علاقة تعاون
>[16] .
فمثلا يذهب
أودييه في كتابه المعنون " علم اجتماع الدين " ، إلى أن الدين، أحد البناءات النظامية الهامة في أي مجتمع، وأن الدين يختلف عن الحكومة التي تهتم بالسلطة والقوة، ويختلف أيضا عن النظام الاقتصادي
[ ص: 82 ] الذي يهتم بالعمل والإنتاج والتسويق، ويختلف عن نظام الأسرة المسئول عن تنظيم العلاقات بين الجنسين، وبين الأجيال.. كما يرى أيضا أن الاهتمام الرئيس بالدين يبدو وكأنه اهتمام بشيء غامض، ليس من اليسير إدراك حقيقته الواقعية. أي أن الدين - في نظره - يهتم أصلا باتجاهات الإنسان نحو ما هـو فوقي، والتنظيمات العملية لما هـو فوق الحياة البشرية. فلقد حدد الدين على أنه المجسد لكل الإلهامات الرفيعة، كذلك فهو حصن الأخلاق، ومصدر النظام العام، وسلام الفرد الداخلي.
>[17] .
والحق، فإن اعتبار الإسلام أحد النظم العديدة في المجتمعات الإسلامية، ليس خطأ فحسب ولكنه تحريف لمعنى الدين الإسلامي. فهو بهذا المعنى لا يتعدى كونه ظاهرة اجتماعية، نشأت من المعيشة في جماعة، ويعادل في أهميته الظواهر الاجتماعية الأخرى التي يعرفها المجتمع.
بينما الحقيقة، أن الدين الإسلامي، بناء شامل يضم جميع الأبنية الفرعية كالاقتصاد، والأسرة، والسياسة، وغيرها من الأنظمة. كما يشمل في الوقت ذاته الإطار التصوري العقدي، ويشمل أيضا العبادات ومختلف الطاعات.
[ ص: 83 ]